هي أشبه بلقطات فوتوغرافية متتابعة تعكس معها صورا مقربة للقاهرة في النصف الأخير من القرن العشرين.. أو ربما هي اسكتشات ولوحات فنية رسمها الكاتب بقلمه اليقظ الأخاذ, ليقدم لقارئه بانوراما عريضة للقاهرة بكل تفاصيلها وملامحها البادية والخافية علي السواء. يمضي القاريء في متابعة سطور هذا الكتاب الممتع مما جري في بر مصر المرة بعد الأخري, وفي كل مرة يكتشف المزيد من المتعة وربما أيضا المزيد من الخبايا والأسرار. ليست هذه هي المرة الأولي التي أقرأ فيها سطور هذا الكتاب, وأحسب أن الكثيرين من القراء قد سبق أن اطلعوا عليه قبلا, لكن القراءة هذه المرة تأتي عقب ثورة25 يناير.. تلك الثورة المجيدة التي غيرت من حياتنا جميعا وقلبتها رأسا علي عقب.. فمصر التي تتبدي في صفحات الكتاب مختلفة تماما عن مصر هذه الأيام..وقاهرة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات لا تشبه أبدا قاهرة25 يناير.. قاهرة ميدان التحرير.. قاهرة المظاهرات والاعتصامات. الحدث السياسي هنا عظيم وجلل, أشبه بالزلزال الذي يأخذ في طريقه كل شيء.. ومن هنا تختلف القراءة.. وسط البلد الذي كان.. بمقاهيه ورواده.. وضجيجه المحبب.. تلك الأجواء الحميمية التي تغمرها الذكريات وتسكنها الحكايات, لم تزل باقية في القلوب والنفوس, لا يجرؤ الزمن أن يعبث بها بيده الغادرة..
يصحبنا إذن مؤلف هذا الكتاب البديع الكاتب الراحل يوسف الشريف إلي شطآن وضفاف مدينة القاهرة راصدا المتغيرات العديدة التي شهدتها تلك المدينة التاريخية العريقة من منظور خاص جدا: التاريخ الوجداني. هاهو يقرأ ملامح قاهرة المعز من تلك الزاوية التي لم تحظ للاسف الشديد باهتمام المؤرخين والباحثين الذين دأبوا علي دراسة وتحليل( ذاكرتنا التاريخية) من خلال التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي دون أن يلتفتوا إلي التاريخ الوجداني. والتاريخ الوجداني هنا بمثابة قماشة عريضة وثرية في آن, تفصح معها عن حقيقة الشعوب والمجتمعات.. وممارساتها..أنشطتها.. عاداتها.. كيف تقضي أوقات الفراغ.. كيف تفصح عن مسراتها وأحزانها..الحماسات.. الإحباطات.. النجاحات الإخفاقات.. تذوق الجمال والانصراف عن القبح.. أساليبها وابداعاتها في السخرية.. كل هذه الممارسات الانسانية المختلفة ألا تساعدنا في التعرف علي الأجواء النفسية والمعنوية والمزاجية للأمم والشعوب خلال حقبة معينة أو عصر كامل ؟ ألا تؤثر معها علي صعيد أخر في الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية وفقا لمساحات الحرية المكفولة للتعبير ؟ من هنا يلتقط الخيط يوسف الشريف واضعا يده علي نبع متدفق يفيض بحكايات وحكاوي تعكس معها التاريخ الوجداني لقاهرة المعز..
ومن هذا النبع نهل قبله الكاتب أحمد محفوظ في كتابه الممتع( خبايا القاهرة) وكان له الفضل في الحقيقة في أن يجعل يوسف الشريف ينحو هذا النحو في دراسته هذه.. إذ أنه أدرك أهمية رصد الحالة الوجدانية للشعوب والمجتمعات وادراجها ضمن صفحات كتب التاريخ, فوجه بصره نحو هذه الواجهة, فكانت الدراسة التي بين أيدينا اليوم. ومن هنا تحديدا يأتي الاحتفاء باكتشاف كتاب( خبايا القاهرة) بقدر إحاطته بالحالة الوجدانية التي كانت سائدة في مدينة القاهرة عبر حقب التاريخ المعاصر, موصلة بما سبقتها من حقب زمنية لاتزال تفرض وجودها ومؤثراتها علي الحاضر خاصة فترة حكم الفاطميين علي مدي أكثر من مائة عام, مرورا والتفاتا برصد الأوضاع السياسية والاجتماعية والعادات والتقاليد التي تشكل في مجموعها الوعاء والأجواء الطبيعية للحالة الوجدانية وتفاعلاتها علي حد كلمات يوسف الشريف.. وحينما سئل المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي عن الدرس الذي أفاده من كتابة التاريخ قال: تعلمت من كتابة التاريخ, أن المؤرخ يجب أن يبحث عن كيف يلهو الشعب, إن اللهو يكشف عن نفسية الشعب, فتاريخ الشعب مرتبط بطريقة لهوه. نحن إذن أمام رؤية رحبة وممتدة وخاصة جدا لصفحات تاريخ مصر.. يعرض الشريف هنا لحياة المصريين بكل تفاصيلها ودخائلها.. الظواهر الجديدة التي انتشرت خلال النصف الثاني من القرن العشرين, وتلك التي اختفت علي صعيد أخر تماما من حياتنا. انتشار المقاهي.. ظاهرة تدخين الشيشة من جانب النساء والفتيات الصغيرات.. مطاعم الوجبات السريعة الجاهزة.. البذخ الاستهلاكي في طعام المصريين.. الجيل الجديد الذي لا يتذوق الغناء والموسيقي العربية.. نبرة الإحباط واليأس والاكتئاب في الحديث.. غابات الأسمنت والطوب الأحمر في المباني.. تفشي ظاهرة اللا تخطيط العمراني.. اختفاء اشجار الفل والتمر حنة التي كانت تعبق أجواء البيوت المصرية القديمة.. تدهور حال رغيف العيش البلدي.. تراجع الصناعات الشرقية القديمة من مصوغات وأقمشة وحلي التي كانت في الماضي مزدهرة.. تدهور نظام التعليم وحال المدارس وتكدس الطلبة في الفصول.. إلي آخر الظواهر التي يرصدها الشريف في فصول كتابه..
حكايات مقاهي القاهرة وروادها هنا علي صفحات الكتاب.. قهوة البوستة بميدان العتبة وقهوة اللواء بباب اللوق.. الفيشاوي بالحسين.. وقهوة شعبان بالحسين أيضا والتي كان يتردد عليها المشايخ وطلبة الأزهر, وقهوة محمد عبد الله بالجيزة.. ويخصص الكاتب فصلا كاملا عن قهوة ريش الشهيرة بوسط البلد ملتقي المثقفين والتي كتب عنها الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم قصيدته المعروفة يعيش المثقف علي مقهي ريش.. وهناك ايضا مقهي وحلواني جروبي ملتقي الأدباء والسياسيين والتكنوقراط الذين تعلموا في أوروبا وأبرزهم الأديب توفيق الحكيم, والدكتور حسين فوزي, والدكتور زكي نجيب محمود, والدكتور لويس عوض.. قاهرة النصف الثاني من القرن العشرين تزخر بأدباء ومفكرين وفنانين عظماء تجدهم هنا في سطور وعبر لقاءات الكاتب وذكرياته وشهاداته وتاريخ محفور في ذاكرة مصر ووجدانها.. هنا روز اليوسف وإحسان عبد القدوس, وصلاح جاهين, وكامل الشناوي, وأحمد فؤاد نجم, والشيخ إمام.. هنا أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وسعاد حسني.. وهنا أيضا عباس الأسواني ومحمد عودة ومحمود السعدني.. هنا نجيب محفوظ وأمل دنقل وعبد العال الحمامصي وفنان الكاريكاتير طوغان وغيرهم وغيرهم ممن خطوا ملامح حياتنا وبلادنا وصاروا كنوزا نفيسة لا تصدأ أبدا مع الزمن.
من الصعب حقا إيجاز الكتاب في كلمات قليلة.. فهو يحمل في طياته عطر الوطن الذي يكمن في أعماق النفس.. كلما صافحت عيناك كلماته يراودك شعور بالبهجة والحزن معا.. تشعر وكأن شريط ذكريات حياتك قد سقط أمام عينيك هكذا دفعة واحدة.. تلملم صوره وأحداثه ونغماته وأغانيه, ورغما عنك تعقد مقارنة سريعة في مخيلتك عن قاهرة قديمة كانت وقاهرة هذه الأيام بكل صخبها وضجيجها وأحداثها المتلاحقة وعندئذ لا تملك سوي أن تزفر نفسا عميقا وتمضي.. الكتاب صادر عن دار الشروق.