مابين هوة الانكسار ونشوة الانتصار لحظات وأيام مفعمة بالمشاعر والمواقف والأحداث, وحكايات البسطاء التي وإن تم تجاوزها أو إغفالها في بعض من كتابات المؤرخين والمحللين السياسيين. تظل علامات فارقة وسجلا لابد من العودة إليه كي نري الصورة بالكامل وأدق تفاصيل الخلفيات الباهتة التائهة في فورة وتوهج ألوان الحدث الصاخب, والتي لولاها ما تشكلت بؤرة النور أو الكتلة المعتمة في صدر الصورة, ولتغير المعني والحدث وربما التاريخ كله. واليوم إذ نحتفل بيوم من أيام الوطن الغالية, نحاول علي لسان من شاركوا في نصر أكتوبر أن نستعيد بعضا من التفاصيل التي شكلت خلفية الحدث وأن نعيش معهم تجاربهم الشخصية المتفردة لحظة صافحت عيونهم أرض سيناء ولامست أناملهم حبات رمالها وأحجارها المسكونة بحكايات تاريخنا المروية والمسكوت عنها. وفي ذات السياق المتمثل في محاولة تقديم قراءة من منظور الفرد أو الجماعة لبعض من الأحداث القومية المهمة التي مثلت نقطة تحول في مسار حياة الوطن وباتت جزءا لا يتجزأ من تاريخه وذاكرته, نقفز عبر الزمان ونتجاوزحدود المكان مع عدد من الأعمال الروائية في العالم العربي التي حاولت أن تدون اصوات البشر العاديين الذين عاشوا أياما لا تنسي في تاريخنا.. تدور عجلة الزمان للوراء مع الكاتبة السورية مريم الملا لنعايش مع ميادة واسرتها وجيرانها أياما وشهورا تأججت فيها المشاعر بحلم الوحدة وفكرة الوطن الممتد من المحيط إلي الخليج والأحداث التي سبقت اعلان الوحدة بين مصر وسورية والتداعيات التي أدت لتهاوي حلم الوحدة والمفارقات الاجتماعية والفكرية التي لعبت دورا في تقطع السبل بين سوقي الموسكي والحميدية-اللذين تغنت بهما صباح منذ اعلان الوحدة حتي صبيحة الانفصال وبين الحاج محمود و نسيبه الذي جاء للقاهرة بمنطق تجار الشام ليفاجأ بالتحولات الاشتراكية. ففي روايتها حدائق النار ترصد الروائية السورية مريم الملا حوارات البيوت والمقاهي والحواري والبسطاء والمثقفين في سوريا والتفاعل الانساني والمشاعر الشعبية لفترة خمس سنوات قبل قيام الوحدة بين مصر وسوريا والحلم المشترك بين الشعبين. وعبر بناء يعتمد بالدرجة الأولي علي الحوار والمراسلات تتكشف طبيعة العلاقات الاجتماعية التي حكمت المجتمع السوري وصور من حياة النساء اللاتي مثلن طبقات وخلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة وتتضح أبعاد القوي والاتجاهات السياسية المتصارعة آنذاك والخلافات بين اعضاء المؤتمر القومي وحزب البعث والماركسيين والاخوان المسلمين. ورغم أن عودة مريم الملا في حدائق النار لتكنيك توظيف الحوار الذي استخدمته من قبل في رواية شجرة التين كفيلة بأن تثير عددا من القضايا المهمة حول هيمنة المشهد الحواري علي الخطاب السردي ورسم الشخصيات وكشف ما يعتمل في أعماقها وخفايا العلاقات بينها, والجدل حول مصطلح المسرواية(اشتقاقا من تقنية الكتابة للمسرح وكتابة الرواية) وتوظيف الحوار واللغة بمختلف مستوياتها وآلياتها وسرعة وبطء الحوار, إلا أن ما يستوقفنا هنا محاولة استرجاع أصوات البشر الذين شكلوا الحدث ولو بصورة غير مباشرة وعايشوا الارهاصات والتداعيات, وهنا تقفز للذهن علي الفور صورة ليلي سليمان في باب لطيفة الزيات المفتوح ومدي التشابه بينها وبين ميادة ابنة الحاج محمود. فالشخصية الرئيسية في كل من الباب المفتوح وحدائق النار لشابتين تعايشان متغيرات اجتماعية وتاريخية ويتتبعهما السرد منذ مرحلة المراهقة,علي مدي عشر سنوات, في رواية الكاتبة المصرية وخمس سنوات في الرواية السورية, وفي الاطار الزمني للروايتين يتداخل الهم الذاتي والفردي مع الهم العام وينتقل السرد ما بين الخاص إلي العام في تناغم يصل لحد التلاحم الكامل, لتصبح الحكاية الخاصة حكاية الجماعة ولتصبح حرية ليلي وخلاصهامن أسر التقاليد البالية في الباب المفتوح رمزا لتحرر الوطن وليتحول اغتيال الضابط عدنان المالكي واغتيال حب ميادة الدمشقية في حدائق النار اغتيالا للحلم وللمد الشعبي. تأتي رواية حدائق النار امتدادا لتيار يحاول أن يقدم رؤية واقعية مختلفة للتاريخ ولأحداثه من المنظور الاجتماعي والوجداني ولسلسلة من الأعمال الروائية السورية والعربية عموما, بدءا من أولي روايات حنا مينة المصابيح الزرق التي رصد فيها صور النضال ضد الاستعمار الفرنسي ورواياته التالية, هو وغيره من الروائيين السوريين والعرب( مثل احلام مستغانمي في( ذاكرة الجسد) التي قدمت رؤية انثوية لتاريخ الثورة الجزائرية حضر فيها الجانب الاجتماعي الذي يغيب دوما عند المؤرخين العرب, وغادة السمان في( الرواية المستحيلة)التي ربطت تاريخ سوريا الحديث بالحراك الاجتماعي, وفاطمة المرنيسي التي قدمت في سيرتها الذاتية( احلام النساء) تاريخا مختلفا للمجتمع المغربي, وهدي بركات التي كتبت رؤيتها لتاريخ الحرب الاهلية اللبنانية في( حارث المياه) والسوريتين سمر يزبك, وروزا ياسين حسن وحنان الشيخ في قصة زهرة وبعض أعمال نجيب محفوظ وجمال الغيطاني ويوسف. القعيد وغيرهم) ممن حولوا صفحات رواياتهم لقراءات مختلفة للتاريخ أو علي حد تعبير نجيب محفوظ عند إجابته عن سؤال عن العلاقة بين الرواية والتاريخ حيث أشار إلي أن الرواية استعراض للحياة اليومية بكل مشاكلها وأحداثها و أشخاصها وأنها ذلك الجزء من التاريخ الذي لم يكتبه المؤرخون. وإذا كانت حدائق النار قد رصدت بعض ما أغفله المؤرخون والساسة من صفحات, فحفرت في الواقع, وحاولت استعادة, ذاكرة البدايات ومتوالية الأحداث مابين القاهرة ودمشق علي لسان شهود العيان وقدمتها في صياغات جديدة كاشفة, تري ما الذي تضمنته صفحات مصادرنا ممن عايشوا لحظة العبور من حكايات وذكريات من وحي الوطن وللوطن.؟