أنا عاطف الأشموني مؤلف الجنة البائسة.. صرخة أشبه بالعويل ظل يرددها الفنان محمد عوض في مسرحية جولفدان هانم عندما اضطر تحت وطأة الحاجة أن يبيع مسرحيته لحفيد السيدة التركية الحالمة بأن يكون حفيدها المدلل امتدادا لأجيال من كبار الكتاب في العائلة.. تذكرت هذه المسرحية الستينية التي توارت في أرشيف التليفزيون المصري فيما كنت أطالع رسالة وصلتني من القارئ فكري فؤاد الشرنوبي من مركز ايتاي البارود بمحافظة البحيرة يطالبني فيها بمساندته لاستعادة حقوقه المادية و الأدبية في مسلسل..... حيث إنه, علي حد تعبيره, المؤلف الأصلي للعمل. وبغض النظر عن تقييمي الشخصي السلبي لمسلسل..., وحقيقة أنني لست جهة التحقيق المناسبة إذ لا يوجد بين يدي ما يؤكد أو ينفي ما جاء بالرسالة, و يقيني أن القضاء هو الجهة الوحيدة القادرة علي حسم هذه القضية وإثبات حق أي من طرفيها, إلا أن ما جاء في رسالة القارئ لم يعد إلي سمعي فقط صدي صرخات عاطف الأشموني, بل أيضا دفعني لإعادة قراءة و تأمل ملف الملكية الفكرية وما يندرج تحت عنوانه من مواضيع شائكة. فما جاء في رسالة قارئ البحيرة سواء أكان إدعاء أم حقيقة يعيد للذاكرة قائمة طويلة من قضايا السطو الفني والعلمي والسرقة المفضوحة بانتحال نص أو جزء منه أو اقتباس نص ما, وصل بعضها للمحاكم, فيما أثار البعض الآخر منها جدلا واسعا في الصحف وقاعات الدرس والمحافل الأدبية. في هذا السياق تسرد صفحات كتب النقد الأدبي دفاع القاضي عبد العزيز الجرجاني عن السرقات الشعرية للمتنبي( كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه) وتشير إلي مدخلات محمد بن سلام الجمحي عن الانتحال الشعري(كتاب طبقات الشعراء) وتبرز مقولة الاخطل( نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة) ومقولة البحتري أعاب بأخذي من أبي تمام! والله ما قلت شعرا قط إلا بعد أن أخطرت شعره بفكري كتاب( سرقات البحتري من أبي تمام) لأبي الضياء وكتاب( الإبانة عن سرقات المتنبي لفظا ومعني) للعميدي, وتبرز اعتراف الفرزدق بسرقاته الشعرية, و رأي الأصمعي أن تسعة أعشار شعر الفرزدق كانت لغيره. في ذات السياق تطالعنا دراسات تتقصي أثر بعض النصوص وتشابهها مع أعمال أخري تنتمي لنفس الثقافة أو لثقافات أخري, مثل كوميديا دانتي الإلهية, ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري, ومتشابهات ثرفانتس في دون كيشوت مع إلياذة هوميروس, واتهام شكسبير بأن مسرحيته الشهيرة روميو وجوليت مأخوذة عن قصة الايطالي المغمور ماتيو باندللو عاشق فيرونا واتهام جابريل جارسيا ماركيز بالسطو علي فكرة رواية الياباني ياسوناراي كواباتا الجميلات النائمات ونسجه علي منوالها روايته غانياتي الحزينات. فإذا ما انتقلنا للساحة الثقافية المصرية تطالعنا مئات الأمثلة من هذه المتشابهات النصية والفكرية, بدءا من اتهام محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش بالاقتباس أو النقل الحرفي لأجزاء من الموسيقي العالمية مرورا بتشابه نص شباب امرأة, للكاتب المصري الراحل أمين يوسف غراب, مع رواية سافو للكاتب الفرنسي ألفونس دوديه واتهام إحسان عبد القدوس باقتباس رواية الدائرة لسومرست موم, ورواية صباح الخير أيها الحزن لفرانسوا ساجان التي ظهرت تحت عنوان لا أنام. من جانب آخر فقد شهدت قاعات المحاكم المحلية والأجنبية عددا من القضايا التي أقيمت ضد مشاهير ادعي البعض فيها عليهم بالسطو علي إنتاجهم الفني. ومن أشهر تلك القضايا إدعاء سكرتير محمد عبد الوهاب أنه المؤلف الحقيقي لمجمل أعمال الموسيقار الشهير, ومطاردة أحد الشباب لأنيس منصور وادعاؤه أنه المؤلف الحقيقي لكتاب شباب غاضبون ورواية من لا يحب فاطمة. كذلك فقد أوشك الكاتب الزنجي أليكس هيلي مؤلف رواية الجذور أن يفقد سمعته ومستقبله عندما تقدم كاتب مغمور للقضاء بكتاب اتضح أن أحد فصول الرواية الشهيرة منقول عنه بالكامل دون إشارة للمصدر. ورغم دفاع هيلي بأن مساعده قدم له النص باعتباره مذكرات إحدي قريباته الزنجيات, إلا أن المحكمة ألزمت أليكس هيلي بدفع مبلغ مالي تعويضا لصاحب النص. وبغض النظر عن طرح النماذج السابقة وغيرها في إطار إشكالية المتشابهات والتناص و النقاش الذي يشغل أساتذة النقد وطلابهم( حول فكرة لا محدودية النص واستفادة الكاتب من المخزون التذكري لنصوص سابقة, وشيوع الأفكار والمعاني وإن تغيرت الأساليب والرؤية الفنية بين الكتاب وتعددت طرق الكتابة وصيغ التناول, والتركيز علي ان بعض كبار الأدباء كانوا نسخا مطورة من أدباء آخرين), تظل مشكلة السطو علي الأعمال الإبداعية والفكرية خطرا يهدد بتجريف الحياة الثقافية. ففي ظل تردي الأوضاع المادية التي تضطر بعض الشباب للتنازل عن إبداعهم طواعية مقابل عائد مادي ضئيل بينما تحول بين البعض الآخر وبين اللجوء للقضاء لإثبات حقوقهم المغتصبة, تظل الساحة الثقافية عرضة لأبشع نوع من السرقات.. سرقة الفكر والجهد والسمعة.. سرقة إبداع كاتب في بداية الطريق.,( سواء بنسب العمل بالكامل لصاحب الاسم الكبير أو الاقتباس من المؤلف دون ذكر الكاتب الأصلي أو استئجار شباب المبدعين للعمل بنظام أشبه بالسخرة في ورش عمل أصحاب الأسماء الرنانة).. سرقة الفرصة من أجيال جديدة مختلفة فكرا وأسلوبا.. سرقة جهد كتاب بذلوا جهدا وعرقا ليصلوا لمكانتهم والتشهير بهم, وبالتالي اغتيال الرمز ومكانة الأستاذ وتسيد الأفكار السلبية, وانتهاك مفهوم الأمانة العلمية الذي بات يهدد كثيرا من جامعاتنا ومراكزنا البحثية.. ورغم أن بعض الأصدقاء قد أكدوا لي أن ثمة موقعا علي شبكة الإنترنت يكشف السرقات الأدبية, وأن بعض المثقفين أكدوا علي ضرورة سن قانون رادع يحفظ حق المؤلف ويوقع بالسارق أو بالمدعي زورا العقاب الذي يستحقه, إلا أنني أظن أن انحسار تلك الظواهر يتطلب ما هو أكبر من القوانين.. يتطلب استعادة مفاهيم تراجعت في حياتنا الثقافية, ربما يكون أهمها فكرة الأستاذ المعلم وتواصل الأجيال واحترام تعدد الرؤي والأساليب ووسائل الإعلام والندوات الثقافية.. ففي غيبة هذا المناخ لن ينجو المشاهير من التشهير ولن تتوقف سخرة شباب المبدعين ولا صدي صرخات عوض الباكية أنا عاطف الأشموني مؤلف الجنة البائسة..