جاء قرار ترحيل مانويل نورييجا الي فرنسا حيث يواجه حكما غيابيا بالسجن عشر سنوات وغرامة11.2 مليون يورو بتهمة غسيل الأموال ليعيد للذاكرة قصة حياة هذا الديكتاتور البنمي. وذلك بعد سبعة عشر عاما قضاها بالسجون الأمريكية بتهمة تجارة المخدرات والتى كانت كافية لكي يتلاشي من ذاكرة البعض. القصة تصلح تفاصيلها بحق لصناعة فيلم امريكي من نوعية أفلام الاكشن والإثارة, هذا ان لم يكن قد صنع بالفعل وشاهدنها علي الشاشة دون ان يفطن البعض خاصة الشباب الي أنها قصة حقيقية مستوحاه من السيرة الذاتية لرجل يحمل شعار صنع في أمريكا. الخط الدراماتيكي لقصة حياته تبدأ في باناما وربما أيضا تنتهي هناك إذا ما تم ترحيله مرة أخري أوبالأحري ثالثة ليواجه تهم بالفساد واغتيالات سياسية ضد المعارضة وان كان هذا الاحتمال هوالآخر يبدو غير وارد حتي الآن حيث يؤكد محاميه ان بنما تتخاذل في اتخاذ الإجراءات اللازمة لاستعادة نورييجا لمحاكمته عن التهم الموجهة إليه وذلك بناء علي اتفاق سري بينها وبين الإدارة الأمريكية للاحتفاظ به خارج البلاد. وهو ما يؤكده وزير التجارة السابق في نظام حكم نورييجا ماريورونيوني بقوله: ان كل ما يهم أمريكا هو مصلحتها السياسية, كما ان الساسة في بنما يشاطرونها هذا الاهتمام بإبعاد نورييجا عن بنما, ويؤكد المعارضون ان شهادات نورييجا إذا ما تم ترحيله الي بنما لمحاكمته من الممكن ان تحرج عددا كبيرا من اللاعبين السياسيين والماليين الموجودين علي الساحة البنمية هذه الايام. وهوما يفسر سر التصريح الذي أصدرته الحكومة البنمية فور صدور قرار ترحيل نورييجا لفرنسا, حيث أعربت عن احترامها للقرار السيادي للولايات المتحدة أما ما صدر من أحكام في محاكمها الخاصة ضد نورييجا بالسجن60 سنة' فعفي الله عما سلف'! علي آية حال فان الوضع القانوني لنورييجا في فرنسا يشوبه بعض من الغموض, فمن المتوقع ان يدفع محاميه بسقوط التهم الموجهة إليه بالتقادم والاعتماد علي مبدأ الحصانة التي يتمتع بها نورييجا طبقا للقانون الفرنسي باعتباره رئيس دولة سابق بالإضافة الي الادعاء بان السجون الفرنسية لا تتوفر بها الشروط اللازمة لقضاء مدة السجن ل' أسير حرب' وهوالتوصيف القانوني الذي منح لنورييجا بمعرفة قاضي امريكي. ما يبدو غريبا حقا في قصة ترحيل نورييجا الي فرنسا استعدادا لإعادة محاكمته حضوريا هو ان الجنرال السجين اليوم هو نفسه الرجل الذي منحته فرنسا في22 يناير1987 وسام الشرف بناء علي توصية من وزير خارجيتها في ذلك الوقت جاك شيراك, رغم ما كان يتردد عن سلوكه الإجرامي, فما الذي تغير؟ حياة الديكتاتور الذي تم خلعه بالقوة في20 ديسمبر1989 بعد الغزو الأمريكي لبنما, فيما يعرف بعملية القضية العادلة تبدو الي حد كبير متشابه مع قصص حياة غيره ممن صنعتهم المخابرات الأمريكية ثم انقلبت عليهم بعد ان استنفذت منهم أغراضها: فنورييجا الذي يبلغ اليوم74 عاما ولد في بنما لأسرة فقيرة من أصول كولومبية وكان يحلم بان يصبح طبيبا نفسيا ولظروف مادية اضطر للاستغناء عن حلمه والانخراط في الجيش ليشارك في عام1968 في الانقلاب العسكري ضد الرئيس ارنولفو ارياس ويبدأ نجمه في الصعود العام التالي عندما وقف الي جانب الجنرال عمر توريخوس في محاولة الانقلاب التي دبرت ضده ليصبح من ذلك الحين واحدا من اشد المقربين له حيث ولاه رئاسة جهاز المخابرات البنمية, هنا التقطته المخابرات الأمريكية وجندته للعمل لحسابها وبمرور السنوات تحول نورييجا الي أقوي رجل في بنما وبمكافأة تعدت ال320 ألف دولار سنويا اصبح خادمها المخلص وان كان في نفس الوقت يلعب لحسابه الخاص وهي حقيقة لم تكن يوما غائبة عن الإدارة الأمريكية. فالثابت ان الإدارة الأمريكية كانت تتعاون معه رغم أنها علي يقين بوجود علاقة بينه وبين مافيا المخدرات في أمريكا اللاتينية, فالادله كانت تشير إلي تورطه في عمليات جلب المخدرات الي الأراضي الأمريكية, ناهيك عما كان معروفا عنه من استخدام الأساليب الوحشية والاغتيالات ضد المعارضة البنمية. فلماذا اذن تغاضي الرئيس نيكسون عن التوصية بضرورة إقصائه في عام1972 بعد ان اصبح يمثل مصدر إحراج للولايات المتحدةالأمريكية؟ ولماذا لم تفكر في القضاء عليه إلا في عام1986 ؟ لم تكن أمريكا بالطبع غافلة عن ماضيه الملوث وتورطه في حادث سقوط الطائرة التي أودت بحياة الجنرال توريخوس ولم تكن فرنسا أيضا غافلة عن تورطه في عمليات غسيل الأموال ولكن كلمة السر دائما هي المصلحة فهكذا يولد الديكتاتور!