قبل أكثر من عقدين تعامل الرئيس التركي الأسبق الراحل تورجوت أوزال ببرجماتية بالغة وهو يدير علاقة بلاده بحرب الخليج الثانية,في المقابل لم يخف رئيس الحكومة الأسبق. في سبعينيات القرن المنصرم والمؤسس فيما بعد اليسار الديمقراطي امتعاضه لتلك السياسة بل رفض الهجمة الغربية إجمالا والولاياتالمتحدةالأمريكية بوجه خاص ضد نظام صدام حسين. ورغم ان اجيفيت كان مناوئا للبعث العراقي لميوله الفاشية واستبداديته المروعة إلا أن ما كان يعنيه هو تخوم تركيا الطويلة مع الجاره العراقية. فقد كان صدام من وجهة نظر اجيفيت صمام أمان لحدود الأناضول مع شمال العراق الذي ترك آثارا إيجابية علي حياة مئات الآلاف من الاتراك الذين يعيشون بالقري والبلدات النائية في تلك التضاريس الجغرافية القاسية, وذلك لحركة التبادل التجاري حتي وأن كان معظمه بعيدا عن خزينة الدولة, لكن كان يكفي أنقرة أنه رفع عن كاهلها, مؤقتا علي الاقل, أعباء هي في غني عنها. الأمر الآخر والمهم, هو ان صدام وقف بحسم ضد طموح بل وجنوح الزعيمين الكرديين مسعود البرزاني, وجلال طالباني, وحلمهما بدولة كردية متاخمة لوريثة الأمبراطورية العثمانية, ولامتنانه من هذا الموقف لم يجد اجيفت أي غضاضة في أن يلتقي بصدام في وقت اتحد العالم ضده. ولم تمر سنوات كثيرة إلا ويري اجيفت الذي عاد وتولي رئاسة الحكومة نهاية التسعينيات قبل بداية الألفية الثالثة مخاوفه تتحقق خصوصا عندما خرج شمال العراق من تحت سيطرة السلطة المركزية في بغداد وتدريجيا بدأت الآثار السلبية الهائلة تظهر علي أحوال العباد في معظم مدن التخوم, هذا فضلا عن دعوات الانفصال التي وجدت فضاءات رحبة كي تنمو وتترعرع وهو ما يحدث الآن. وبعد مرور اثنتي عشرة سنة, فإن البلاد قد ينتظرها المزيد من مطالب التجزئة ونسف وحدة هضبة الأناضول, وذلك علي خلفية التطورات الدامية في سوريا وشمالها الذي يبدو أنه يتوق الي استنساخ نموذج أربيل والسليمانية في الشام. هنا يطرح التساؤل, علي من تقع المسئولية؟ قوي اليسار التي يبدو أنها مازالت أسيرة آليات التفكير التي كانت سائدة قبل عقدين وربما أكثر إذ حملت الثنائي الأمبريالي أوباما, نيتانياهو وزر هذا التردي الانفصالي ليس ذلك فحسب بل دفع الشعب التركي الي السقوط في الأتون السوري, وفي اطار تسخين الرأي العام, الذي بات يظهر ضجره لتداعيات الصراع السوري نقلت صحيفة آيد نيك( النور الوضاح) عن مسئولين سوريين رسميين لم تسمهم, تأكيداتهم بأن المعارضة المسلحة باعت اسلحتها الحديثة التي تسلمتها من تركيا, لأعضاء منظمة حزب العمال الكردستاني الانفصالية مقابل مبالغ كبيرة ولم تنس الصحيفة أن تذكر قراءها بتزايد الأعمال الإرهابية التي طالت مدنيين وعسكريين في المناطق المتاخمة للشمال السوري الذي تسيطر عليه ميليشيات كردية. ولمزيد من السخرية تجاه الجيش الحر قالت آيدنليك صوت المعارضة التركية إن التناحر علي أشده بين عشرات الفصائل التي تتحرك الآن في عموم الشام ليس بسبب التباينات والرؤي الايديولوجية وإنما علي تقاسم ملايين الدولارات التي تصلهم من قطر والسعودية ومن هو الذي يفوز بالجزء الأكبر من الكعكة البترودولارية؟ وبعد ان رصدت الصحيفة تلك التطورات من خلال معايشتها ليوميات الحرب الدائرة جاء دور التحليل وفيه أكدت أن ما تقوم به أنقرة وكذا القوي الاقليمية الأخري لن يؤدي الي حل الأزمة وبالتالي فالحرب الأهلية مستمرة ما لم تقدم الولاياتالمتحدة السلاح للمعارضة وهذا لن يتأتي حتي حلحلتها مع نجاح باراك أوباما في مارثون الانتخابات وصعوده مجددا الي سدة البيت الأبيض الذي يفضل المساعدات المادية التي وصلت الي130 مليون دولار, وهذا بدوره, ووفقا للصحيفة يستند لحكمة مؤداها هو العمل علي مواصلة القتال ضد نظام الأسد وليس اسقاطه, والأمم المتحدة ذاتها تسير في نفس الفلك الامريكي لإطالة أمد النزاع واستنزاف البلاد إلي أن تصل إلي الهدم, وتمضي خيوط المؤمرة وبطبيعة الحال لابد أن تكون وراءها الدولة العبرية التي تخشي سيطرة نظام اسلامي راديكالي في مرحلة ما بعد الأسد,, كما ان تشكيل إدارة جديدة في هذا القطر المتاخم لها مرفوض ايضا علي الاقل في المستقبل المنظور. كما أن تل ابيب لن تكون سعيدة ومطمئنة وهي تري إعادة بنية نظام الأسد الابن التي ستكون في هذه الحالة نتاج دعم لعراق وإيران الشيعيتين فضلا عن طموح الدولة الفارسية في أن يكون لها منفذ الي منطقة البحر المتوسط عن طريق سوريا وامتدادها حتي لبنان, وبالتالي تصبح دولة جارة لها! وخلص المحللون ومعهم الصحيفة الي القول إن الحل المفضل لإسرائيل, هو استمرار الحرب الأهلية بل وانتشارها بين دول المنطقة لكي تشعل فتيل نزاع طائفي سني شيعي. وإنطلاقا من أن حروب المسيحيين في العصور الوسطي استمرت لعقود, فلماذا لا تصبح قرونا في الشرق الأوسط! كان هذا جانبا من تفكير شرائح من اليسار التركي, وهي تقرأ الأزمة السورية وهو في مجمله يقوم علي هواجس ونظرية المؤامرة, ولأن حكومتهم هي الاداة لتنفيذ المخطط, الاستعماري فلا بأس عن التنكيل بها وبما أن الأخيرة تعثرت خطواتها وباتت في حاجة ملحة لمخرج يعيدها الي جادة الصواب, فما علي الاتراك سوي انتظار برجماتي آخر علي وزن الراحل أوزال يضع نهجا جديدا مغايرا إن لم يمكن البلاد من الاستفادة من الأزمة فعلي الأقل يجنبها الخسائر!.