أنت في مصر بلد الشكوي رغم أنها لغير الله مذلة.. أنت في مصر لا تجد أحدا راضيا عن حاله.. أنت في مصر الأنين هو اللغة الرسمية.. أنت في مصر ندابة صبحا ومساء, تلطم الخدود وتشق الجيوب وتقلع الفانلة وتقف بلافتة وميكروفون تدعو بدعوي الجاهلية.. أنت في مصر سلة الشكاوي.. أنت في مصر المظلوم فيها صرخ زهق قعد كوع نام ع الرصيف.. أنت في مصر مطلوب المتابعة حتي الوصول للحل.. أنت في مصر مستهدف بدورك لمن يشكو لك.. أنت في مصر لا تفرح إذا نلت ما تتمني.. أنت في مصر لا تشرك من حولك فرحتك بقضاء أمرك تخوفا من الحسد.. أنت في مصر إذا ما ضحكت تبتئس واللهم اجعله خير.. أنت في مصر تداري علي شمعتك وهي مطفأة.. أنت في مصر تكنس السيدة علي المعتدي, وتكشف راسك وتدعو علي كل ظالم, وتحسبن علي من هضم حقك, وتكتب خطاب للمقام الطاهر يضم المؤهل وشهادات الخبرة ومجالات العمل وتنتظر نتيجة الاستخارة.. أنت في مصر قائما نائما هائما مفلسا قابضا زاهدا شاردا مشردا باردا دافئا مقتحما مشرنقا ملحلحا مهجورا مطحونا فلولا كلبا أسدا متسيدا فرفورا.. في جميع الأحوال لديك شعور بالظلم, وصعبان عليك روحك, وعلي استعداد فوري لعزف موال الأسية واشمعني أنا يا عيني علي الحيطة المايلة.. أنت في مصر تولع في روحك لأجل توصل صوتك, وتتناول سم فئران لتلفت نظر الرئيس, وترمي روحك تحت العربية يمكن الحركة ديه تجيب شقة بعفشة ميه.. أنت في مصر أحد أسباب البلطجة والتطرف هو عجز الناس عن الحصول علي حقوقهم, والأبواب الموصدة من المسئولين في وجوههم.. أنت في مصر يوقع المسئول علي مظلمتك بثلاث تأشيرات, إحداها خاصة للتنفيذ, وأخري للمجاملة, وثالثة لمجرد إرضاء صاحب الشكوي.. أنت في مصر قنديل قام بزيارة مفاجئة لديوان المظالم, وكل شيء في مصر مفاجأة, يلعلع فجأة, ويفطس فجأة.. أنت في مصر سيل منهمر من الشكاوي الكيدية تقلق منامك وتنغص عليك عيشتك وتهز صورتك وتحرج أقاربك وتطفش أصحابك وتلطخ شرفك وتفسخ خطبة ابنتك وتجرئ عليك البواب, وللأسف إن القانون لا يجرم هذا النوع من الشكاوي... أنت في مصر تنقد بغل وحقد, وتهجو بوحشية غاب, وتؤنب بمطواة قرن غزال, وتعاتب بمدفع هاون, وتعارض بأصابع ديناميت.. أنت في مصر مصدرللنكد, ما أن تقول يا ساتر إلا وتجني فدادين استياء, ومزارع امتعاض, وجبال مصمصة, وهضاب تنهدات.. أنت في مصر عضو في هيئة تشكو, أو طائفة تشكو, أو جماعة تشكو, وفي الحضر تشكو وفي الأرياف مظاليم, وعلي الأطراف عشوائيات الشكاية, وفي القرافة روح الشكاوي طلعت لبارئها.. أنت في مصر ديوان المظالم أنشأه أنور السادات تابعا لرئاسة الجمهورية في30 يوليو1976 وعين له الدكتور مصطفي أبوزيد رئيسا ليرفع إليه تقريرا كل ثلاثة أشهر يتناول الوزارات التي عملت علي إنصاف الناس والمشاكل التي قامت بحلها, والوزارات التي تقاعست عن التجاوب مع الديوان للنظر في أمرها, وكان شعار الديوان ترسيخ العدل وسيادة القانون, وإحساس كل من يعمل في الديوان أنه المقاتل في سبيل الآخرين, وأن مهمته إنسانية وليست ساعي بريد يرسل الشكاوي إلي الجهات الإدارية ويتسلم ردها علي سيركي وخطاب مصوجر!!..أنت في مصر الغاضبة تفرغ شحنة غضبك في طلب مقدم بورقة دمغة ب2 جنيه في انتظار الفرج الذي لا يأتي.. أنت في مصر طابور طويل بلغ145 ألف مظلمة في مائة يوم قضي فيه المتظلم نهاره ويومه وأسبوعه وشهره كعب داير ما بين القصرين ديوان المظالم بعابدين والرئاسة في العروبة, وتضيع آلية التفعيل والتنفيذ ما بين90 موظفا لتلقي الشكاوي و20 مليون مظلمة علي رأسها البطالة التي تعدت للمرة الأولي13 مليون عاطل, هذا بينما هناك42 جهة وهيئة حكومية منوطة بدراسة هذه الشكاوي وتوزيعها علي الجهات المختصة لحلها, والحل فين أراضيه؟!!.. انت يا حاج سيد تروح للأمين العام.. وانت يا والدتي مفتاح قضيتك في مجلس الوزراء, ومحمد عبدالكريم من السنبلاوين طلبه خلاص وصل لسيادة وزير الإسكان, والأسطي جلال من إمبابة يروح من بكرة للقوي العاملة.. والست سعدية من شبين الكوم وزارة البيئة هي المنوطة بحل مشكلتها, ويا عمنا يا بتاع مركز القوصية أسيوط فوت علينا بكرة. أنت في مصر التاريخ ذهبت فيه المظلومة للخليفة المأمون تشكو له ابنه العباس فأتي رده بما معناه شعرا فوتي علينا بكرة وفيما يلي ما قالته المرأة:يا خير منتصف يهدي له الرشد.. ويا إماما به قد أشرق البلد تشكو إليك عميد الملك أرملة.. عدا عليها فما تقوي به أسد فابتز منها ضياعا بعد منعتها.. لما تفرق عنها الأهل والولد فأطرق المأمون ثم رفع رأسه قائلا: من دون ما قلت عين الصبر والجلد.. وأقرح القلب هذا الحزن والكمد هذا أوان صلاة الظهر فانصرفي.. وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد المجلس السبت إن يقضي الجلوس لنا.. أنصفك منه وإلا المجلس الأحد وتأديبا من الخلفاء لولاة الدولة الظالمين كان الخليفة المنصور إذا عزل واليا أخذ ماله وتركه في بيت مال منفصل أسماه بيت مال المظالم وكتب عليه اسم صاحبه, لكن هذه المصادرة كانت إلي حين إذا أن غايتها تأديب هؤلاء الولاة وترهيبهم, ولذلك قال المنصور لابنه المهدي: وصيتي إذا ما مت أن تدعو من أخذت ماله فأردده إليه, فإنك تستحمد بذلك إليهم وإلي العامة. وفي أيام العباسيين كان ديوان التوقيع خاص بالنظر في المظالم التي تسمي القصص, ومن شروط الناظر في المظالم أن يكون جليل القدر, نافذ الأمر, عظيم الهيبة, ظاهر العفة, قليل الطمع, كثير الورع.. وأول من نظر في المظالم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, وأول من أفرد للنظر في المظالم يوما كاملا عبدالملك بن مروان الذي عهد فيه إلي قاضيه ابن إدريس الأزدي تنفيذ أحكامه.. وتوالي خلفاء بني العباس في رئاسة ديوان المظالم.. المهدي, ثم الهادي, ثم هارون الرشيد, ثم المأمون, وآخرهم المهتدي بالله محمد بن الواثق.. وفي الدولة الطولونية جلس الأمير أبوالعباس أحمد بن طولون يومين كل أسبوع للنظر في المظالم, وبعد وفاته أوكل ابنه خمارويه بالأمر إلي وزيره محمد بن عبيده عام273 ه.. وفي الدولة الإخشيدية عقد كافور الإخشيد مجلسا للمظاليم كل يوم سبت يحضره القضاة والفقهاء والشهود, ويذكر التاريخ بعدها القائد جوهر الصقلي الذي رأس ديوان المظالم حتي قدوم المعز لدين الله الفاطمي, ومن توقيعات الصقلي بخط يده علي مظلمة تاريخية قوله كما سجله المؤرخ المقريزي: سوء الاجترام أوقع بكم طول الانتقام, وكفر الألغام أخرجكم من حفظ الذمام, فالواجب فيكم ترك الإيجاب, واللازم لكم ملازمة الاجتناب, لأنكم بدأتم فأسأتم, وعدتم فتعديتم, فابتداؤكم ملوم, وعودكم مذموم, وليس بينهما فرجة تقتضي إلا الذم لكم, والإعراض عنكم, وليري أمير المؤمنين رأيه فيكم.. ولما قدم المعز لدين الله إلي مصر وصارت دار خلافة عهد بدار المظالم إلي قاضي القضاة وقدم أمير الجيوش بدر الجمالي إلي القاهرة وتولي الوزارة فجلس يحقق في المظالم بنفسه وقبالته قاضي القضاة, وبين يديه صاحب ديوان المال واسنهسلار العسكر والحجاب والنواب, ومكث هذا الجلوس يومين في الأسبوع.. وكان آخر من تقلد المظالم في الدولة الفاطمية زريك وزير الملك الصالح الذي كتب له يقلده المنصب.. وقد قلدك أمير المؤمنين النظر في المظالم, وإنصاف المظلوم من الظالم.. ولأنها ليست ابنة اليوم أو الأمس لكنها الصفة المتأصلة المتجذرة المتوارثة المتحوصلة في نسيج حياتنا نحن أبناء مصر.. الشكوي.. نتواعد نشكو. نتقارب نشكو. نتباعد نتراسل الشكوي عبر المراسيل وعلي أجنحة الأثير. نحط راسنا في راس بعض, ونشكو ونعيط ونطبطب علي بعض. وتقعد تحب في حبيبك تضحك له وتعيط له وتشكي له ويشكي لك, وتغني ظلموني الناس و..وليه الظلم ليه, ولك يوم يا ظالم, و..نسهر مع أم كلثوم للصبح تغني قصيدة الآهات!.. من سبعين سنة وأكثر رصد ظاهرة الشكوي لدي المصريين الكاتب الشيخ عبدالعزيز البشري صاحب الأسلوب الساخر والقراءة المتأنية للشخصية المصرية, والبشري كتب بالأمس وكأنه يكتب اليوم مواكبا الوقفات الاحتجاجية لجميع الطوائف الشكاءة البكاءة التي خرجت إلي الشارع تطالب بحقوقها.. وما بين البشري ويومنا هذا لا شيء تغير ولا شكوي خمدت ولا حق عاد لصاحبه.. يقول البشري: قد تحدثك نفسك يوما بأن تتعرف علي الصفة التي تميز مصر من بين بلاد العالم, والتي إذا أطلقت انطلقت من فورها إليها دون أقطار الأرض جميعا, ولعل أول ما يخطر عليه ظنك أنها بلاد زراعية طوعا لسخاء أرضها ومهارة سواد سكانها في فنون الزراعة, إلا أن الأمم الزراعية في العالم كثر, ومصر الزراعة أكلت أرضها وزرعها ودفنت فأسها ورأسها وسرحت ثيران سواقيها, وذبحت حمامات أبراجها, وتركت غلاتها مكشوفة لمناقير العصافير... ثم إنها ليس لها حظ مذكور من علم, ولا من فن, ولا من قوة بدنية, ولا من امتياز في كفاية حربية, ولعل هذا يرجع إلي ظروفها التي لا خيار لها فيها, فالمصري الذي كان معروفا بالشجاعة في الحرب, وطول الصبر فيها, وشدة الجلد عليها من قديم الزمان لم يعد له حظ مذكور في شيء من تلك الأشياء, وهذه أمم مثل مصر كانت لها حضارات فخمة, وكانت لها قوة لا تعادلها قوة, وسطوة في أمم الأرض دونها كل سطوة, فدارت عليها رحي الزمان حتي طحنتها طحنا ثم ذرتها في الهواء, ولم يصبح لها من أمجاد آثارها امتداد, ومهما يكن في شيء فالوصف بعظمة الماضي, وجلال التاريخ, وفخامة المجد التليد ليس مما يجدي المصريين في هذا الباب ولا يفيد.. وأرجوك يا سيدي ألا تجهد بطول البحث والتحري في البحث عن هوية المصريين, فإنك في الغالب لن تخرج بشيء, ولو فتشت نجوم السماء, ونقضت كل ما علي ظهر الأرض من الحصاء, علي أنني متبرع لوجه الفضول أن أهديك إلي الخلة التي تختص بها مصر في هذا الزمان وتستأثر, بحيث لا يشاركها فيها مشارك, ولا ينازع عليها منازع, وبحيث لو حشرت الخلائق كلها في صعيد واحد, وبعث من جديد جميع من غيبتهم القبور, والتهمتهم الحيتان في جوف البحر من مهلك عاد وثمود, ومقتل أصحاب الأخدود, وصحت فيهم أي الأمم صفتها كيت: لأجابوك في نفس واحد: هي مصر!.. وهذه الخلة التي تمتاز بها مصر اليوم وتنفرد بها دون سائر أمم الأرض جميعا هي.. الشكوي.. نعم الشكوي! وإنني أتحدي من شاء, وأخاطر من شاء علي ما شاء إذا زعم أن هناك أمة أشكي من مصر, أو أن هناك خلقا من خلق الله يشكون بنسبة أعلي مما يشكو المصريون! كل هيئة في مصر تشكو, وكل طائفة فيها تشكو, وكل جماعة تشكو, وكل فرد يشكو, وما انقطع لأحد من هؤلاء شكوي ما تعاقب الليل والنهار.. هؤلاء الموظفون أرأيتهم قد انقطعوا يوما واحدا عن شكواهم وبث مظالمهم وعظيم بلواهم: الدرجات.. العلاوات.. الترقيات.. فروق المرتبات.. وهؤلاء الحجاب والسعاة يتظاهرون لأنهم أكثر خدام الحكومة تعبا, وأحقرهم مرتبا, وهيهات أن تفي بضعة جنيهات بما يرحمهم من وجوه المطالب في وجوه الحاجات.. وهؤلاء رجال البوليس لا يفتأون يشكون الظلم اللاحق والجور الحائق, فأعمالهم ثقيلة, ومهماتهم جليلة, ومرتباتهم ضئيلة, ودرجاتهم هزيلة, وهو ما لا ينبغي أن يعامل به حفظة النظام من يضحون براحتهم وأرواحهم في إقرار الأمن والسلام... ورجال القضاء أهلنة وشرعنة لا يفترون عن المطالبة بتعديل كادر الدرجات والعلاوات ولا شك أن من أشد الإجحاف أن تسوم الظلم من تقتضيه القيام علي العدل والإنصاف.. وهؤلاء حملة الشهادات العاطلون هيهات أن تبطل لهم شكاية, أو تفتر لهم دعاية... أما المعلمون في جميع ضروبه وأشكاله وألوانه فهم كل يوم يمطرون المعارف بالعرائض أمطارا, ويرسلون منها علي الصحف وابلا مدرارا فلا يفتح القارئ صحيفة يومية أو مجلة أسبوعية أو شهرية إلا رأي شكايات المعلمين تنفذ إليها من كل أقطارها, وتجري في جميع أنهارها, والصحيفة الخالية من الشكوي أرض جرداء لا زرع فيها ولا ماء, فدموع البشر تنبت الشجر, والأنين تعزفه الكمانجات, والشكوي في حد ذاتها مصيدة للقارئ قد يجد فيها توءما لحاله ومنديلا لدموعه وآهاته ولوعاته.. هذا بعض ما يكون من أمر الموظفين, أما التلاميذ وأولياء الأمور ففي كل يوم شكوي من المصروفات, والدروس الخصوصية, وصعوبة أسئلة الحساب والجغرافيا.. و..أنت لا تري بلدا من بلاد القطر كله إلا ويشكو بعض أهله من أهله من عمدته وغفلته عن صيانة الأمن, ومصانعته للصوص البهائم في ليل الزرائب.. حتي النيل واهب مصر لم يسلم من الشكوي فهل تسمع من أي بلد إلا موجع الشكوي من احتباس مياهه, ومن طغيانه حتي إن فيضانه طغي علي الزرع وغمر الساق والورق.. وهؤلاء الأزواج يشكون الزوجات, والزوجات يقطعن فراوي الأزواج, وآباء يقاضون الأبناء, وخال يأكل حق العيال, والحماوات يشكين أزواج البنات.. و..لا تنسي الأحزاب واتهامها الحكومات بسوء الحكم وخلف الوعود, وشكوي الحكومات مما يقابل به ما تبذل من الجهود من النكران والجحود.. والآن لعلك اقتنعت بأن أصدق وصف لمصر في هذا العصر أنها بلاد الشكوي, ولو ذهبت أسرد جملة الشاكين والشاكيات لما اتسعت آلاف الصفحات... و..لقد وضع الشيخ البشري أصبعه علي الجرح. وكل حي وله مظلمة, ومظلمتي لن أرفعها لديوان المظالم, بل ألوكها وحدي في الركن البعيد المنزوي, وربما أدفنها يوما بجواري في بحر الرمال, وفحواها أنه عندما كان يتاح لي ربط الحزام والسفر واستنشاق الهواء الصحو غير العكر, كنت أشعر بعقلي ينشط ويعمل بكل ما لديه من سرعات الأحصنة, وكأنه تحول من فصوص وشرايين إلي معمل أفكار تنبثق منه بين كل دقيقة وأخري فكرة, ولا أفكار مصطفي أمين, ترتبط وترتطم وتتناغم وتزغرد وترقص وتحلق وكأنها طيور النورس البيضاء القادمة في أفواج كملائكة السماء تصفق بأجنحتها وتهفهف وترفرف علي بحيرة عقلي الغناء الغنية بالغذاء لأعيش عرس الأفكار وولائم الأشعار ومواكب الغار.. كنت أري جمال الشاب والشيخ والمرأة وعجائز الأناقة كلهم سائرين نشيطين مسرعين, فتنتقل عدوي الجمال والنشاط إلي أوصالي لأدب بحذائي علي أرض الطريق مزمعة الوصول إلي آخر مشوار الطريق... لكنني الآن, وبعدما جري, أسافر بقوة الطرد فقط, وأعود لأبقي أياما بقوة الدفع الذاتي قادرة علي الحركة, لكنها تلك الحركة التي تنتابنا عندما نهبط من الأوتوبيس فنجري عدة خطوات بجواره حتي نتوقف تماما.. ثم.. ثم.. الاستسلام لأمر خارج عن إرادتنا ناء بكلكله بطول البلاد وعرضها! وأتساءل هل هي السن أم أنه الزمن الردئ الذي فتح معابر للرمل الناعم الأصفر, والتراب الزري المنطفئ, ليتسرب بين الأوصال والثنايا والخلايا, ويسكن تحت الجلد, وداخل مواسير العظام, ويصلب اللهاة, ويغزو الجفون, ويجعل الرموش حرابا, والرؤية سرابا, ويسد طبلة الأذن, ويحشو الضروس, ويقف في الزور, ويخنق الأنفاس, ويكلس كرات الدم أحمرها وأبيضها... لم أكن في البداية أعي أو أشعر بمقدم جيوش الرمل والنمل الزاحفة ببطء مع سبق الإصرار والترصد إلي مستقرها المخطط في خلايا الجسد الذي حبا ومشي وهرول وجري وارتحل وامتحن وعمل وحمل وربي وشارك ووقف طويلا, وجلس كثيرا, ورفع يده بالسؤال, وغاص بقدمه إلي أعماق التاريخ, ورفع رأسه لتحلق في القرن الخامس والعشرين والأربعين.. الجسد الذي انتفض وثار وشارك الثوار, وظل إلي حين قريب يحمل جذوة الخلق القادر علي تحقيق ما يجول بالخاطر, لكن الرياح التي تأتي دائما بما لا تشتهي السفن, أتت هذه المرة بدفقات الرمل الخفي من جحورها ليحتل سهول ووهاد الأرض والسماء والصحراء والكتاب, ويسكن السقف واللسان والعين والحلق والعلم والقلم والجدار والجوار, مما أدي تدريجيا إلي هبوط القوي ووهن القلب وهشاشة الأوصال والصداع النصفي والكلي والزهقان والرهقان والنسيان, وهم يتثاقل حتي بلغ الحلقوم, ولهاث لحد انقطاع الأنفاس, والتساند علي الحيطان, والإشارة الملول الخرساء بدلا من لغة الكلام.. فتأتي الفكرة لنؤجلها للمساء, ويأتي المساء لنزيحها مع كل ما هو ممكن تأجيله لبعد العيد.. ولا يأتي العيد.. ويبدأ الغبار يطمس الرؤية لينطفئ في طياته الغبراء: الطموح والإقدام والنهوض والهمة والشروع والإزماع.. وتغدو الحياة عبئا, والأمس عبئا, والغد عبئا, والعمل عبئا, والزوج عبئا, والأولاد عبئا, والقبلة عبئا, والحب عبئا, والوطن عبئا.. ولانزال نتحمل ونصمد ونأمل ونحلم ولم ننكسر ولم نركع ونحيا كيفما اتفق, ونصدق الوعود, وتلك هي معجزة الشعب المصري الذي أبقته حيا طوال أكثر من ألفي عام من حكم المستبدين والمجانين والغزاة والهواة والشرقانين! ..ويئوب الإنسان في النهاية للتنفس من تحت الماء بعدما صعدت أسماك القرش لتغزو الأرض وما عليها, وتختبئ في سيقان الذرة لتنقض انتقاما علي كل من عاداها ولم ينضم لمسيرتها ولم يحذ حذوها أو حدد إقامتها يوما.. وكنت أظنها بمثابة أعراض لحالتي المرضية الخاصة, لكنني وجدتها الظاهرة العامة المتفشية المستشرية كما تستشري الآن الغدة النكافية والصراخ عريا أمام الاتحادية والدعوة العامة لحل التأسيسية.. ذرات الرمال الناعمة تسربت إلي جميع مفاصل الشعب الفكرية والنفسية لتحولنا إلي أجولة استسلام بشرية, اللهم إلا بضعة أجولة لم يزل فيها الرمق وحلاوة الروح.. لم تزل تعارض وتخبط وترزع وتجتمع وتتفق وتختلف وتنسق وتحزق وتمدد وتهدد وتعقد التحالفات وتزعق في الميكروفونات وتتجهبذ في الفضائيات.. و..تتعثر في ساحة مغلق الخشب بعدما سوي المكان وطرد الدخان وأغلق الميدان وأخرج محابيس الجمل من وراء القضبان ومحيت رسوم الجدران واقتصر الاستاد علي الإخوان.. لكنها.. تبقي مكتوفة الأيدي كالملتاثين داخل القمصان الخيش تحت نظر وسمع النفوس الخيش, ويبقي نضالها كالطير يرقص مذبوحا من الألم بعدما فتح المغول الجدد الأنفاق لتغطي الجميع سحب التراب النكداء. والدرس غير المستفاد لتنابلة السلطان المسلطنين مع أم كلثوم تغني قصيدة النوم المتوكلون علي العناية الإلهية كي تأخذ بأيديهم أنهم لم يعوا قوله تعالي: وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون, وقول الحديث الشريف: اعقلها وتوكل.. أي افعل ما عليك أولا ثم اترك الباقي علي الله.. ولكننا اكتفينا بالاستسلام ولغو الكلام والنوم في الرغام, وعمركم بالعمر شفتم فلكلور شعب يجذر حكمة إن الكسل أحلي من العسل!.. و..موت يا حمار.. وقد مات الحمار!! [email protected] المزيد من مقالات سناء البيسى