في لحظات التحول في تاريخ الأمم دائما ما تكون في مفترق طرق صعب , فإما أن تسير في اتجاه ترميم الماضي الثقيل والانغماس في مشكلاته, وإما ان تمتلك إرادتها في إحداث نقلة نوعية في كل مجالات الحياة خاصة بعد ثورة شعبية تاريخية مثل ثورة يناير. وفي الحالة المصرية فإننا أحوج من نكون الآن لنسلك الخيار الثاني الذي يتطلب وجود رؤية شاملة لشكل المستقبل وآليات واضحة لتحقيقها تتناسب وتطلعات وتوقعات الشعب المصري, والإمكانيات الحالية والكامنة, وبعبارة أخري فإننا نحتاج للإجابة عن التساؤلات الكبري من قبيل: كيف نحقق مصر الجديدة التي نريدها؟ وما دور كل واحد في تحقيق ذلك, وعندما نفتقد هذه الرؤية فإننا لاشك نسير في طريق أكثر ضبابية. فقد صاحب خطاب الرئيس مرسي بشأن برنامجه للمائة يوم الأولي, وما تحقق من وعود بشأن الملفات الخمسة, المرور والأمن والنظافة والوقود ورغيف العيش, جدل واسع ما بين مؤيد يري أن هناك إنجازات ضخمة تحققت وما بين معارض وغير راض, انطلاقا من توجهاته الإيديولوجية وانعكاسا لحالة الاستقطاب السياسي السائدة في المجتمع, وفي كلتا الحالتين, استغرق الجميع في التفاصيل وغفل عن القضية الجوهرية التي تمس جوهر ثورة يناير وهي كيف يمكن أن تنتقل مصر المترهلة إلي مصر الجديدة الحديثة, فلاشك أن خطاب الرئيس مرسي أمام الجماهير وتقديم كشف حساب عن برنامجه للمائة يوم الأولي يعد إنجازا في حد ذاته يعكس تطور الثقافة السياسية في العلاقة بين الحاكم والمحكوم من خلال المكاشفة والشفافية, لكن في المقابل استغرق الرئيس في تفاصيل مشكلات الحياة اليومية التي ربما تكون من مسئولية حكومته التي اختارها, بينما دوره يتعدي مجرد إظهار المشكلات والتحديات إلي تقديم رؤية شاملة ومتكاملة عبر خريطة طريق واضحة لنهضة المجتمع المصري, تبتعد عن العموميات والشعارات إلي برنامج عمل محدد لمعالجة كل مشكلات المجتمع في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما تحتاجه إلي الابتكار والخيال السياسي, وتستطيع أن تعبئ كل فئات المجتمع وراءها وتمثل قاسما مشتركا بين جميع التيارات السياسية سواء الليبرالية أو اليسارية أو الإسلامية أو الوسطية. فالرئيس مرسي يمكن أن يدخل التاريخ بحق إذا استطاع بلورة هذه الرؤية السياسية الشاملة لتحقيق أهداف الثورة, فليكن هناك مثلا برنامج قومي لمدة خمس سنوات للقضاء علي الفقر والأمية وكذلك برنامج وطني للقضاء علي العشوائيات وآخر للقضاء علي الأمراض التي تفتك بالمجتمع المصري وبرنامج آخر للتصنيع يرتكز علي إيجاد ميزة نسبية تتخصص فيها مصر تستطيع أن تحدث نقلة في الاقتصاد وتنافس بها في الأسواق العالمية, ولتكن صناعة القطن البداية, وكذلك برنامج وطني للنهوض بالزراعة وتوسيع مساحتها, وبرنامج لتطوير التعليم بكل مكوناته.. إلي آخره من البرامج التي يمكن تنفيذها في مدي زمني محدد وتمتلك الإرادة وآليات المراقبة والمتابعة والتغلب علي التحديات التي تواجهها أولا بأول. ولتكن هناك شفافية وصراحة بين القيادة والحكومة وبين المواطنين في إظهار المشكلات الحقيقية وحجمها وسبل التغلب عليها حتي يستطيع المواطن الصبر بل والمساهمة في إنجاز تلك البرامج لأن ثمارها سوف تعود عليه في نهاية المطاف. وربما يكون التحدي الأبرز هو أن تنفيذ هذه النهضة الشاملة لن يكون عبر فصيل واحد في الحكم وإنما تحتاج إلي تكاتف جهود جميع الأطراف, ولذلك ليس انتقاصا من حزب الحرية والعدالة أن يعرض مشروعه للنهضة للنقاش العام وإضافة رؤي وتصورات أخري إليه ليستطيع الجميع بلورة مشروع قومي للتحديث, ولهذا يمكن توظيف الحوار المجتمعي الحالي الذي يقوده رئيس الوزراء الدكتور هشام قنديل حول برنامج الإصلاح المالي والاقتصادي, وتحويله إلي حوار حول كل قضايا المجتمع والوصول إلي هذه الرؤية الشاملة, وهذا يعني ألا تكون تلك الحوارات الوطنية استنساخا لما سبق من حوارات شكلت ساحات للمكلمات ثم تنفض دون جدوي, بل إن تغليب المصلحة الوطنية العليا, التي لا يختلف عليها أي تيار, علي المصالح الإيديولوجية والفئوية هو العامل الأساسي لنجاح هذا الحوار وضمان ترجمة مخرجاته إلي أرض الواقع. وينبغي ألا تكون هذه الرؤية مرتبطة بتيار معين في الحكم, يمكن أن تتغير بتغير من في السلطة وإنما بمثابة مشروع تحديثي متواصل ومتراكم يبني عليه من يأتي في السلطة أيا كان توجهه السياسي, لأن عملية التقدم والتطور تمثل صيرورة دائما حتي تصل إلي أهدافها, كما أنه إذا كانت مصر مثقلة بالمشكلات والتحديات التي تراكمت لعقود, فإنها مع ذلك تمتلك أهم ثروة وسلاح لتحقيق هذا التقدم وهو العامل البشري الذي يجب الاستثمار فيه من خلال التعليم وتعبئة الطاقات المعطلة, لكن نجاح وتنفيذ خريطة الطريق هذه يظل مرهونا بقدرة النخبة والتيارات السياسية علي إنهاء حالة الاستقطاب الحالية وحسم التناقضات العالقة مثل قضية الدستور وطبيعة الدولة وتحقيق الاصطفاف الوطني وهذا هو الإنجاز الأكبر الذي ينتظر الدكتور مرسي وليس فقط وعود المائة يوم. المزيد من مقالات احمد سيد احمد