تناولت في مقالين سابقين «الحداثة هي الحل» و«الحداثة هي الطريق لرؤية المستقبل» أزمة القوي الوطنية السياسية في مصر، وبروز مؤشرات تعكس انتهاء العمر الافتراضي للمشاريع السياسية للقوي والتيارات الوطنية المصرية، وبروز تجليات وارهاصات تمهد لمرحلة جديدة يتقدمها نخب جديدة، إضافة لعدم وجود مقومات مهنية واخلاقية للتوسع الاعلامي وحرية التعبير غير المسبوقة أيضا وتهالك وتشوه البني الفوقية المتخلفة، يجعلنا نعتقد أنه لا الاسلام السياسي ولا التيارات الاشتراكية ولا الاتجاهات الليبرالية هي الحل... بقدر ما يكمن الحل في تحديث كل هذه البني، وإدارة اوسع حوار ممكن نحو عقد اجتماعي وسياسي جديد. وفي هذا السياق طرحت هذه الفكرة للحوار من قبل الأب هنري بولاد اليسوعي، والمحامي عمرو أنور وكاتب السطور تدور حول: أولا: تشجيع المصريين علي استقراء تاريخ مصر الحديثة من أجل فهم وإدراك أبعاد التحديات النابعة من الحداثة وجدل العلاقة بين الحداثة والتراث، وهذا لا يعني إلغاء كل منهما الآخر وإنما يسيران علي درب واحد دون تداخل. ثانيا: مع الأخذ في الاعتبار ألا يقتصر هذا الفهم علي نخبة من المفكرين والمثقفين بل يمتد ذلك إلي عامة الشعب المصري، بما يقتضي برنامجا شاملا يشمل كل طبقات وفئات المجتمع المصري في الداخل وبلاد المهجر ودون حجر علي رأي او اتجاه معين. ثالثاً: سيحاول مقدمو المقترح تبني هذه الفكرة والتنسيق لها من أجل تفعيلها ودفعها في الواقع دون فرض وصاية مع احترام الخصوصية لكل من يشارك سواء كانوا أشخاصا أو شخصيات اعتبارية مصرية. رابعاً: في البداية يجب علينا أن نضع خريطة نحدد فيها اشكاليات المجتمع المصري الفكرية والايديولوجية، ونعرج منها إلي مدخل رباعية تساعد علي استيعاب الوضع، وتسهيل طرح الحلول. 1- المدخل الذاتي، ومساعدة المواطن المصري في أن يجد ذاته، فتحقيق المواطن لذاته يسهل أمور في غاية الصعوبة، بل يفتح باب الحوار المجتمعي . 2- المدخل البنيوي 3- المدخل التعبيري 4- المدخل المؤسسي فهناك حتمية إلي وضع مبادئ تحليلية (تصور من خلال مجموعة تعمل علي رسم خطوط عريضة) لمصادر تكوين الشخصية المصرية وخصوصا الشباب، ومنها مثلا الوسائل الاعلامية ، ونوعية الكتب التي يقبل عليها الشباب، ومصادر الخطاب الديني المتطرف الذي يخطو علي خطوه السيطرة والقداسة العقلية، وكيفية اختراق كل ذلك من خلال برامج عمل فكرية وثقافية، ولا يمكن أن يري كل ذلك النور إلا بعد وضع خريطة للوضع الراهن ونشخص أساس العوار ونصلح منه. وبعد طرح مقتبس من التصور المبدئي لمقترح المفكر الأب هنري بولاد اليسوعي والمحامي عمرو أنور، لابد أن نعرج علي خريطة الوضع الفكري الراهن ونشخص أساس العوار ونصلح منه. سيطرة الفكر الديني الرجعي علي أغلب مناحي الفكر المصري في الاربعين عاما الماضية، أي منذ تحالف السادات مع التيارات الاسلامية السياسية المتطرفة في مواجهة اليسار المصري عام 1971، وعلي الصعيد المسيحي وكرد فعل خصخص رجال الدين المسيحي المواطنين المصريين المسيحيين وسيطرت «العمامة السوداء» علي مقاليد الامور الخاصة بالاقباط. تراجع كل ما هو فكري (تأصيلي) أمام كل ما هو (تأويلي) سياسي، واضمحل دور المفكر أمام استحواذ السياسي مقاليد الامور، وغاب تفاعل النشطاء السياسيين عن الممارسة السياسية في الشارع. حيث حلت الفضائيات وبرامج «التوك شو» محل الاحزاب، وتمت وينوب المذيع الفضائي عن الشعب المصري!! سيادة فكر طبقة بعينيها علي مختلف التيارات السياسية، حيث ساد فكر الطبقة الرأسمالية (بعد تديينها) علي أغلب التيارات المتصارعة سواء في قطاعات واسعة من أجهزة الحكم وتيارات الاسلام السياسي وحزب الوفد، وبعض قطاعات اليسار المصري، وأصبح الخلاف بين كل هؤلاء علي المقاعد التمثيلية للطبقة الراسمالية المشوهة من المجالس النيابية ولم نسمع من أي من هؤلاء عن برامج لتحديث مصر (راجع كل برامج الاحزاب والقوي والأفراد الذين خاضوا معركة المجلس التشريعي الاخيرة، إذا كانت هناك أصلا برامج)!! الموقف الذيلي للقوي المدنية التي تحاول جاهدة الالتحاق بجماعات الإسلام السياسي والتحالف معها بما في ذلك بعض تيارات كانت مدنية وعلمانية في السابق مثل الماركسيين والقوميين العرب والناصريين ناهيك عن قطاعات كانت ليبرالية سواء داخل الحزب الحاكم أو الوفد، كل ذلك يتم في انتهازية واضحة وجلية. شراء الذمم والأقلام وهيمنة الجهلاء علي وسائل الإعلام الخاصة مما أدي إلي سيطرة متدنية من قبل بعض الدعاة الجدد والاعلاميين الجدد، في مشهد يثبت ان هامش حرية التعبير تحت السيطرة علي أغلب قطاعاته من قبل بعض الدخلاء مما يثبت أن هامش حرية التعبير قد تم اختطافه من قبل هؤلاء، وأن العقل المصري قد تم تأميمه وتشويهه وتدينه، وفرض آراء هؤلاء علي المصريين البسطاء علي انه «المقدس» لا غيره!! إننا أمام مشهد يحتاج الي ثورة فكرية تمارس أوسع إزالة ممكنة لهذا الركام المتخلف الذي أصبح يغطي عقول المصريين.