تناولت في مقالي السابق «الحداثة هي الحل» الواقع العربي المتردي والمحيط بمصر الوطن والدولة، والضغوط الخارجية التي تمارس علي الإدارة المصرية، وتساءلت: أيهما أكثر خطرا علي مصر، الضغوط الخارجية؟ أم رعونة وجهل القوي الداخلية في إدارة تناقضاتها وأزماتها؟ وتم ترجيح الخطر الداخلي علي الضغوط الخارجية، وارتباطا بما حدث في الانتخابات مؤخرا، وسيادة المنطق المشوه للقوي السياسية، وكيف أن تلك القوي جمعت في ممارستها الانتخابية ما بين الانساق المتخلفة شبه القبلية من عنف وفرض السطوة بالقوة، وما بين ثقافة السوق «أبان مرحلة المزاحمة الحرة للرأسمالية في مطلع القرن التاسع عشر»، حينما غلبت «ثقافة المزاد» أي الاستحواذ السياسي لصاحب الأعلي سعرا علي ما هو ثقافي وسياسي، ومن ثم يتم الانتقال من الاحتكار الاقتصادي إلي الاحتكار السياسي أو ما يحلو للبعض بتسميته «الاقطاع السياسي» بكل ما يحمل من استبداد تحت غطاء يبدو ديمقراطياً، والأخطر أن آلية الاستقواء بالخارج من جانب الخاسرين في المزاد، صارت المعادل الموضوعي لمقاومة ذلك الاحتكار السياسي.. ومن هنا يكمن الخطر علي الدولة والمجتمع المصري. وفي هذا المقال سوف نستعرض ما قد يؤلم البعض، ولذلك أتقدم بالاعتذار عما قد يرد في هذا المقال من آراء قاسية ومختلف عليها وهي: أولا: لا يوجد حزب أو قوي سياسية أو مرشح لم ينخرط في التزوير بمعناه الواسع «تسويد بطاقات - استخدام أسلحة المال أو العنف البدني أو الفكري - أو أي مظهر آخر من مظاهر التزوير» مع الأخذ في الاعتبار التمييز بين الأوزان النسبية المتفاوتة من حزب لآخر أو من مرشح لمرشح وفق الامكانيات المرتبطة بتلك الأوزان النسبية ويعود ذلك إلي أن ثقافة التزوير أصبحت ثقافة مصرية، وذلك من جراء عوامل متعددة أهمها النظام الانتخابي نفسه. ثانيا: أن معظم المنظمات المدنية والحقوقية التي أخذت علي عاتقها مراقبة أو متابعة الانتخابات غلبت عليها أيضا ثقافة التزوير، من حيث افتقاد المهنية، والاسراع باصدار الأحكام المطلقة ومن تابع أو راقب عمل تلك المنظمات سيجد أنها بادرت منذ الساعة الأولي للعملية الانتخابية بنشر أو بث تقارير يغلب عليها «الشو الإعلامي» وعدم الدقة، وعدم انضباط المعايير والخلط بين ما هو مهني وما هو سياسي وما هو إعلامي، والأخطر أن تلك المنظمات وجهت خطابها للخارج أكثر منه للداخل. ثالثا: الإعلام المصري القومي بجميع أشكاله لم يستطع أن يخفي انحيازه للحزب الحاكم، لكنه أدار هذا الانحياز بمهنية عالية علي عكس الإعلام الخاص المرئي أو المكتوب ما عدا قناة «أون تي في» الذي استطيع القول إنه فشل مهنيا وتحول إلي إعلام «منحاز ومغرض» وغلب عليه التشوه، ورغم ادعاء الاستقلالية فقد ساد الإعلام الخاص التخبط والوقوع في أخطاء مهنية فادحة اعتذر عنها أكثر من مرة. رابعا: وإن كانت انتخابات 2010 هي الأقل في العنف البدني عن معظم الانتخابات السابقة، إلا أنها شهدت عنفاً فكريا وإعلاميا وماليا غير مسبوق في تاريخ مصر الحديثة. خامسا: التدليس السياسي، واستخدام شعارات غير مدققة أو منضبطة: مثل استخدام «مصطلح الصفقة» عن جهل أو ابتزاز حتي من قبل بعض أعضاء الحزب الوطني في مواجهة الحزب الوطني، كما أن القوي التي ادعت أنها قاطت الانتخابات في الجولة الثانية وفي مقدمتها حزب الوفد.. انخرط مرشحوها بقوة في تلك الجولة الانتخابية في الوقت الذي هاجمت فيه صحف ووسائل إعلام هذه القوي حزب التجمع لعدم مقاطعته الانتخابات في انفصام ما بين الفعل والقول لتلك القوي والأحزاب. سادسا: بروز ظاهرة جديدة في حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، وهي ظاهرة العنف الفكري والكلامي الذي يرقي إلي حد ارتكاب جريمة «السب والقذف» والذي ساد خطاب المختلفين في الحزب مع قيادة الحزب وفي مقدمتها رئيس الحزب، وبعيدا عن موقف الأطراف المختلفة ومع كامل احترامي لهم جميعا فإن حزب التجمع منذ تأسيسه 1976 وحتي 2010 لم يشهد هذا التردي غير المسبوق في الخطاب السياسي لليسار المصري، اللافت للنظر أن يصاحب تلك الاتهامات ردود أفعال غريزية وبدائية تمثلت في القفز علي المؤسسات الحزبية ولست أدري ما السر وراء هذه التصرفات؟ هل انطواء معظم المعارضين للحزب منذ فترة قصيرة بحيث لم يتربوا علي روح الحوار، ولم يتمرسوا علي التقاليد التجمعية التي كانت راسخة من قبل؟ أم أن الأمر يرتبط بانتهاء العمر الافتراضي لمشروع اليسار ورؤيته السياسية؟ الأمر الذي يدفع للبحث عن كبش فداء للفشل وتجسيده في شخص د. رفعت السعيد، بدلا من إدارة الأزمة بطرق إن لم تكن سياسية فيجب أن تكون أخلاقية حفاظا علي تراث هذا الحزب. سابعا: وبناء علي ما تقدم هل ما حدث يعكس مؤشرات علي انتهاء العمر الافتراضي للمشاريع السياسية للقوي والتيارات الوطنية المصرية، وبروز تجليات وارهاصات لمرحلة جديدة يتقدمها نخب جديدة؟ إضافة لعدم وجود مقومات مهنية وأخلاقية للتوسع الإعلامي وحرية التعبير غير المسبوقة أيضا وتهالك وتشوه البني الفوقية المتخلفة، يجعلنا نعتقد أنه لا الإسلام السياسي ولا الاشتراكية ولا الليبرالية هي الحل بقدر ما يكمن الحل في تحديث كل هذه البني، وإدارة أوسع حوار ممكن نحو عقد اجتماعي وسياسي جديد، أن المخرج لكل تلك الأزمات لا يبدو له أمل إلا في شخص الرئيس حسني مبارك ومؤسسة الرئاسة، الله أعلم.