بعيداً عن الصخب الانفعالي، والخطاب القبلي الشخصاني، والاستقطابات خاوية المضمون، والاستقواء بالخارج عبر شعارات وطنية وقومية، والخروقات الوطنية تحت مضامين حقوقية، فإن مايحدث فيما أصطلح علي تسميته بالوطن العربي أمر يستحق التأمل والرثاء، لبنان رهينة لحزب الله، سوريا ترتهن إرادتها الوطنية لإيران، إسرائيل تلتهم فلسطين، السودان علي طريق التقسيم، ناهيك عن الحرب الاهلية في دارفور، دول الخليج علي كف إيران، السعودية تعاني من تنظيم القاعدة، اليمن بين مطرقة القاعدة وسندان الحوثيين، ودعاوي انفصال جنوب اليمن عن شماله تزداد يوماً بعد يوم، العراق حدث ولاحرج، الصومال تشهد سقوط الدولة والمجتمع، بلدان المغرب العربي يمرح فيها تنظيم القاعدة كما يشاء!! ذلك هو المشهد العربي والمحيط الحيوي بمصر الوطن والدولة، من كل إتجاه، إيران وإسرائيل من جهة وقوي الارهاب من جهة أخري، والولايات المتحدة وحلفاؤها من جهة ثالثة، هل مصر بمعزل عن كل هذه التهديدات والضغوط؟ وأيهما أكثر خطراً علي مصر، تلك العوامل الخارجية أم رعونة وجهل القوي الداخلية في إدارة تناقضاتها وأزماتها؟ للإجابة علي السؤال لابد أن نعود للدائرة العربية المحيطة بمصر، من أجل إدراك المقدرات العربية للهوية المصرية، سنجد: أولا.. عدم تبلور مفهوم الأمة ولا الدولة لكل سكان المنطقة من المحيط إلي الخليج بإستثناء مصر والمغرب. ثانيا: كل سكان المنطقة بما في ذلك مصر والمغرب لم يمروا بعد بعملية الحداثة، وهكذا فإن أغلب هذه الدويلات (باستثناء مصر والمغرب) تحكمها وتتحكم فيها مكونات قبلية، وأنماط إنتاج متخلفة، حتي مصر التي تعد طليعة هذه الدويلات فان القوي الرئيسية فيها قوي دينية ومتخلفة، ومحظورة قانوناً، وبالرغم من ذلك فهي التي تمتلك زمام المبادرة السياسية في المجتمع، ورويداً رويداً استطاعت أن تفرض أنماطها الثقافية علي البني الفوقية المجتمعية، بما في ذلك القطاع الثالث (المجتمع المدني)، حيث تم تديينه وأصبحت هناك منظمات حقوقية ذات طابع ديني (اسلامي أو مسيحي!!). ثالثا: تعاني مصر من صراعات دينية وطائفية تحتل المرتبة الاولي في تجليات الصراعات السكانية، متخطية بذلك الصراع الاجتماعي، وأحيانا تشوهه وتحل محله. رابعا: وفي مصر أيضاً الدولة المحورية تعاني السلطات الثلاث للدولة من خلل هيكلي، حيث تجور السلطة التنفيذية علي مقدرات السلطتين التشريعية والقضائية.. نتاج تشوه وتداخل الادوار المختلفة للسلطات، وأحيانا تماهيها مع السلطة التنفيذية، كما أن بعض الانساق الهيكلية لتلك السلطات طالتها رياح التشوه والتديين من جراء عمليات النحر الثقافي والاجتماعي، السياسي من قبل القوي الدينية المتبلورة في الوعي الثقافي الجمعي، الامر الذي يجعل ثقافة التدين الشكلي هي الثقافة السائدة في مصر، ورغم أن مصر عرفت الحياة الدستورية مبكراً (1923) إلا أن الثقافة الدستورية تكاد تكون منعدمة، وحتي حينما يدور جدل دستوري فإنه ينصب علي المكون الديني في الدستور ( مثال المادة الثانية الخاصة بدين الدولة ودور الشريعة)، ولم يقتصر الامر علي ذلك فالمكون الديني الآخر (المسيحي)، أعتبر مؤخرا أن ما يسمونه الشريعة المسيحية فوق الدستور والقانون، ثم يحدثونك عن مصر (الدولة المدنية !!). خامسا: كل تلك التشوهات جعلت مصر دولة مدنية شكلاً ومختلطة موضوعاً ومؤخراً ونتيجة الصراع الدائر بين ثنائية المدني والديني.. ظهرت أنساق ثقافية مهجنة.. (دينومدنية)، وصار ذلك التهجين هو الطابع الغالب للثقافة الوطنية في الحقبة الاخيرة... سادسا: وعلي الصعيد السياسي صارت الديمقراطية آلية من آليات القوي السياسية من أجل تحقيق مصالحها، وانتفي البعد القيمي للدمقرطة، وتحول الفضاء الديمقراطي إلي (سوق سياسي)، أنتقلنا فيه من الاحتكار الاقتصادي إلي الاحتكار السياسي، وغلبت ثقافة (المزاد) علي ثقافة الاقتراع. سابعا: ومن ثم ظهرت بين القوي المدنية المصرية والتي شوهت من جراء التديين نزعات ثأرية مرتبطة بمنهجية الشخصنة المرتكزة علي نفي الآخر بكافة السبل. هذا ما نشهده في مصر المحروسة في الآونة الأخيرة، حيث تحولت القوي السياسية التي يفترض أن تكون مدنية إلي قوي مشوهة... تجمع مابين الأنساق المتخلفة للثقافة القبلية، من عنف وفرض السطوة بالقوة، ومابين ثقافة السوق (أبان المزاحمة الحرة)، حيث غلبت (ثقافة المزاد)، أي الاستحواذ السياسي لصالح الأعلي سعراً علي ماهو غير سوقي أي ثقافي أو سياسي، والأخطر أن آلية الاستقواء بالخارج، للخاسرين في المزاد صارت المعادل الموضوعي لمقاومة الاحتكار السياسي، ومن هنا يكمن الخطر علي الدولة والمجتمع المصري (اللهم إني قد ابلغت اللهم فأشهد).