أمر عظيم أن تجدد مصر احتفالاتها بانتصار حرب أكتوبر المجيدة عام 1973, وهي الاحتفالات التي توقفت فعليا منذ اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات في يوم السادس من أكتوبر عام 1981 وهو يجلس في القلب من منصة الاحتفال العسكري وبجواره نائبه الوحيد حسني مبارك. لم يكن توقف احتفالات نصر أكتوبر لأسباب أمنية فقط تتعلق بحذر مبارك من التعرض لمصير الرئيس السابق, ولكن كانت هناك أسباب أخري لا تقل أهمية جوهرها إفقاد مصر المعني الأساسي الكامن في هذا النصر, وهو أن الشعب المصري بإرادته الوطنية وجيشه, قادر علي أن يحارب وأن ينتصر. فخلال السنوات الثلاثين الماضية حدث انقلاب كامل في منظومة الوعي الوطني والقيم السياسية العليا الحاكمة لهذا الوعي وما تتضمنه من مبادئ تعلي من شأن الولاء الوطني والدفاع عن السيادة الوطنية والتطلع إلي بناء مصر قوية تكون قاعدة لمشروع عربي نهوضي قادر علي أن يحقق وحدة الوطن العربي, وتعطي للمقاومة وبناء الجيوش وتسليحها أولوية قصوي, لصالح منظومة أخري من القيم البديلة التي تعطي الأولوية للانكفاء المصري نحو الداخل تحت شعار مصر أولا, والتراجع عن دعم الجيش وتسليحه, والترويج لثقافة السلام وتجريم ثقافة المقاومة, والتوسع في تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني وتكثيف الاعتماد الاقتصادي والعسكري علي الولاياتالمتحدةالأمريكية. لقد كانت مصر, ومازالت, مستهدفة من إسرائيل, فهي العدو الأول في الإدراك الاستراتيجي الاسرائيلي, والعدو الذي يجب تحطيمه والقضاء عليه. فقد تعرضت مصر في 28 فبراير 1955 لعدوان علي قرية السموم بقطاع غزة, الواقع منذ حرب عام 1948 تحت الرعاية المصرية ولم يكن الجيش المصري يملك وقتها سلاحا قادرا علي خوض حرب, وعندما اضطرت لتأميم قناة السويس بعد سحب الأمريكيين عرض بناء السد العالي قامت إسرائيل ومعها كل من بريطانيا وفرنسا بالعدوان الثلاثي في أكتوبر 1956, وبعدها توالت المعارك السياسية والاقتصادية والاستخباراتية ضد مصر إلي أن جاء عدوان يونيو عام1967 الذي شنته إسرائيل بتدبير ورعاية ودعم أمريكي كامل لكسر إرادة التحدي الوطنية المصرية. وحتي بعد أن وقعت مصر معاهدة سلام مع الدولة الصهيونية لم تتوقف التهديدات الإسرائيلية للأمن المصري وللمصالح المصرية ابتداء من امتلاك ترسانة هائلة من الأسلحة النووية, بجانب ترسانة غير مسبوقة من الأسلحة الأمريكية الحديثة الأكثر تطورا, والتهديد علي لسان كبار المسئولين بضرب السد العالي بالقنبلة الذرية لإغراق مصر وشعبها, وامتدادا إلي اعتداءات مستمرة علي الحدود راح ضحيتها العشرات وربما المئات من الجنود المصريين, والتصدي لأي محاولة مصرية هدفها تحديث تسليح الجيش المصري, كان آخرها الرفض الإسرائيلي لقبول ألمانيا بيع غواصتين لمصر, لكن الجديد هو ذلك النزوع الإسرائيلي المتصاعد للعودة إلي احتلال سيناء, وتوظيف التوترات الأمنية الأخيرة لصالح فرض انصياع مصري لمطالبها الأمنية والترويج لمقولة أن سيناء باتت تشكل خطرا علي الأمن الإقليمي كخطوة أولي ضمن مخطط شديد الخطورة يرمي إلي جعل سيناء منطقة متنازعة السيادة بينها وبين إسرائيل يمكن أن ينتهي بشن حرب لإعادة احتلالها. فقد سبق لرئيس الأركان الإسرائيلي أن أعلن أنهم يستطيعون أن يعيدوا مصر إلي الوضع الذي كانت عليه في عام 1967, وبعده جاء تهديد رئيس الحكومة بنيامين نيتانياهو بأن إسرائيل لم تعد تحتمل ما يحدث في مصر من فتح للمعابر والانفلات الأمني في سيناء, وإن كل الخيارات مفتوحة أمامها بما في ذلك إعادة احتلال سيناء, لكن تهديدات الحاخام الإسرائيلي المتطرف شموئيل شمونيلي رئيس حركة حماة إسرائيل كانت الأخطر والأكثر وضوحا لفضح حقيقة النوايا الإسرائيلية نحو مصر وعلي الأخص نحو سيناء, فقد دعا هذا الحاخام, حكومة الكيان إلي ضرب مصر واحتلال سيناء لإخافة إيران, واصفا مصر بأنها أكبر تهديد لليهود وإسرائيل, مؤكدا أن وقت العمل في سيناء قد حان, لأنها لنا نحن الشعب اليهودي, ولابد من استعادتها. من هنا نقول إن تجديد احتفالاتنا بانتصارات أكتوبر المجيدة أمر عظيم ورائع شرط أن تكون هذه الاحتفالات ضمن مشروع وطني هدفه التصدي ومواجهة كل التداعيات السلبية التي نتجت عن كل ما حدث من انحراف طيلة السنوات الثلاثين الماضية في المنظور الاستراتيجي المصري لأمن مصر وعلي الأخص في سيناء. لا يكفي أن ترفرف الرايات, أو أن توجه التحية لأرواح الشهداء ولكل القادة والجنود الأبطال, لكن لابد أن نتجه جميعا إلي نزع فتيل الخطر الذي يتهددنا الآن ويتهدد أمن وسيادة وطننا عبر حزمة من الخطوات المدروسة. أولي هذه الخطوات أن نستعيد سيادتنا الوطنية علي كامل أرض سيناء قبل أن تختطف من بين أيدينا وينجح الإسرائيليون في تحويلها إلي أرض متنازعة السيادة فالسيادة المصرية الآن, ووفقا لنصوص معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني ناقصة أو سيادة مجروحة بعد أن فرضت هذه المعاهدة تحويلها إلي منطقة منزوعة السلاح ليس لمصر أي حق في إدخال قوات أو معدات عسكرية تتجاوز ما هو منصوص عليه في هذه الاتفاقية. استعادة سيادتنا علي سيناء تفرض علينا أن نقدم علي تعديل نصوص هذه المعاهدة وخاصة المادة الرابعة وملحقها الأمني, وتستلزم أيضا أن يدخل جيش مصر إلي كل أرض سيناء وأن يرابض علي الحدود الدولية, وأن تمتد السيادة أيضا إلي كل ما هو غير عسكري, خاصة تنظيم دخول الإسرائيليين إلي سيناء. ثانية هذه الخطوات أن يتم ربط الأمن بالتنمية في سيناء بتحقيق التوازن بين السلاح والتنمية, بحيث يكون السلاحقادرا علي حماية التنمية ومنشآتها, وتكون هذه التنمية هي العمق الحقيقي القادر علي توفير الحماية للسلاح بجعل الشعب طرفا مباشرا في استراتيجية الدفاع الوطنية داخل سيناء. ثالثة هذه الخطوات اعتماد مشروع وطني للنهضة يكون قادرا علي استيعاب كل الطاقات الوطنية, وأن يحوي في تفاصيله الأسس التي ترتكز عليها مشروعات كل التيارات الوطنية. مشروع غير إقصائي لا يخضع لإرادة حزب أو تيار سياسي بعينه, يكون قادرا علي تحقيق كل أهداف الثورة كي ينخرط الجميع في معركة بناء ودفاع واحدة عن الوطن وعن انتصاراته كي تبقي رايات العزة والكرامة ترفرف علي كل ربوع مصر. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس