أسئلة حائرة يبحث لها المصريون عن إجابات مفقودة في تيه الأحداث المتلاحقة حولهم ولا يقدرون علي صدها أو ردها أو التفاعل معها: لماذا لا نستطيع أن نخرج من النفق الذي دخلنا فيه؟, كيف نصنع ثورة ثم نتراجع عما كنا عليه؟, ما الذي يقيد حركتنا ويقطع علينا الطريق فنظل ندور حول أنفسنا, وكل منا يسأل الآخر: هي مصر رايحة علي فين؟ انتخابات وانتخبنا, رئيس واخترنا, عسكر وعادوا إلي المعسكر..إذن ماذا ينقصنا؟ أخاف من الإجابة..قد يكون فيها كثير من التجاوز, لكن لا أجد بديلا لها, ومن عنده البدائل فليطرحها لنا.. الإجابة باختصار: نحن أصحاب عقل مجتمعي مصاب بالعطب, قد نملك عقولا فردية رائعة ومبدعة في جميع المجالات والتخصصات من عامل المحارة إلي عالم الذرة, لكن عقلنا الجمعي من طراز اللي يحب النبي يزق, عقل قديم لا يمت لزمنه وعصره بصلة, يعيش أيامه ويدون تواريخه في دفاتره ويذكره في مكاتباته ويضع أوراقه علي مكتبه, ويستخدم أدواته: سيارات وطائرات وكومبيوترات وفضائيات وملابس وبيوت وعبارات, لكنه يعيش بها علي تخوم هذا الزمن وهوامشه الضحلة, ولا يدخل إلي قلبه ولا إلي مركز أعصابه وتفكيره. يري أيامه ولا يستوعب تفاصيلها الدقيقة الفاصلة. يستهلك منتجات حضارته ولا يساهم في إنتاجها ولا يقدر. والمدهش أنه لا يحاول فقط دخول العصر الحديث, بل ولا حتي الاقتراب منه, والعصر الحديث ليس مجرد تاريخ معلق علي حوائط بيوتنا ومسجل في حياتنا, العصر الحديث هو منهج في التفكير, نمط في الإنتاج وأسلوب في إدارة الموارد والبشر, وإذا قارنا الأفكار والأخبار والأحداث ونظم الإنتاج وأساليب الإدارة والمعلومات المثارة في مجتمعنا بمثيلتها في مجتمع غربي, الفارق هائل ومخيف, كما لو أننا نعيش في زمن آخر وعصر آخر, عقلنا هو العقل الذي كان سائدا ما بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر: حضاريا وفكريا. وطبعا لا يمكن أن يكون العقل الجمعي هو خلاصة كل العقول المصرية, فكما قلت هناك عقول كثيرة رائعة مبدعة متفوقة ولا تقل عن عقول الآخرين الأكثر تقدما في العالم, لكنها ليست له الغلبة, ولا قوة التأثير.. وهذا التفاوت العقلي يصنع أزمة هائلة في المجتمع, أزمة عدم قدرة علي التفاهم والتواصل الصحيح, وهذا ما ظهر- علي سبيل المثال- في اللجنة التأسيسة للدستور والخلافات حولها, خلافات لا تنحصر في صراع الاستحواذ, وتفصيل دستور علي مقاس البعض, بقدر ما هو خلاف في جوهر التفكير و والقدرة علي الارتباط بالعصر. ولو أخذنا حرية الفكر والإبداع والتعبير نموذجا, سنجد اللجنة منقسمة بين فريقين, فريق ضدها رافعا شعار حماية القيم والأخلاق والتقاليد والحفاظ علي المجتمع, ويتصور أن الحرية هي بوابة الخروج علي النظام العام والدين, وقص أجنحتها أو قصقصة ريشها هو أكبر ضمان لتجنب جنوحها وانفلاتها وحماية الناس من أفعالها المشينة, فيتعامل مع نصوص الدستور المقترحة بعقلية أمنية, الشك والارتياب والتربص منهاج تفكيره, والأسوار والقيود والحدود هي أسلوب عمل. والفريق الثاني يعتقد أن حرية الفكر والإبداع والتعبير هي أجنحة المجتمع القوية القادرة علي الطيران به إلي النهضة والتقدم, حتي لو مارست بعض الجنوح والشطط والجنون, والمجتمعات العفية تصنف شطط الحرية في خانة العوادم والأثار الجانبية, وتعمل علي حصارها في أضيق نطاق, وبالقطع لا تقتل طائر الحرية لكي تتخلص من مخلفاته. والدستور هو أهم وثيقة لنا, جسرنا إلي عقل مختلف ومستقبل مختلف, وعلينا أن نصنع نقطة توازن بين جمال الحرية وغجريتها, بين دورها الحضاري وشططها, بين طاقاتها الفاعلة في شرايين المجتمع والعوادم الملوثة الناتجة عنها. وعقلنا المعطوب لن يعالج بين يوم وليلة, لكن علينا أن نعترف بأن ثمة عطبا فيه, فلا يوجد رأي صائب طول الوقت ولا حتي نصف الوقت, ونصل إلي نقطة التوازن التي تتيح لنا الخروج من النفق إلي مصريين متساويين تماما في الحقوق والواجبات بلا أي نوع من التمييز. المزيد من مقالات نبيل عمر