قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير المباركة, جري في مصر حديث اللامركزية علي ألسنة عديد من المسئولين والأكاديميين دون أن يكون للامركزية حظ يذكر من التطبيق علي أرض الواقع, وهو ما يعود, علي الأرجح, إلي غياب الإرادة الصادقة والرغبة الجادة لدي الرئيس السابق وأعوانه في مراكز صنع القرار. وعندما قامت الثورة, رفع الثوار شعارات الحرية والعيش والعدالة والكرامة, وهي شعارات يمكن بلورتها في هدفين مركزيين; وهما: بناء نظام ديمقراطي حقيقي, وتحقيق تنمية شاملة مصحوبة بعدالة اجتماعية, فإذا ما تم إنجاز الهدفين معا, تحققت كرامة المواطن المصري في شتي ربوع الوطن. وفي خضم ذلك, تصبح اللامركزية بالضرورة حاضرة وبقوة. وهنا أود تبديد وهمين: أولهما: أن اللامركزية, بمعني تركيز السلطة في يد الحاكم, ومحورية العاصمة- قدر مصر, كونها مجتمعا زراعيا نهريا بامتياز. وكلما كانت الحكومة المركزية قوية شديدة البأس, شاع الأمن, وانتظم دولاب الري والصرف, وزاد الإنتاج الزراعي, وكلما ضعفت الحكومة المركزية, اضطرب الأمن, واختلت منظومة الري والصرف, وتراجع الإنتاج الزراعي. غير أنه ليس صحيحا علي إطلاقه ما رسخ في أذهان كثيرين بشأن هذا الوهم. فقد شهدت مصر في تاريخها الحديث والمعاصر بعضا من مظاهر اللامركزية, وتبلورت في دساتيرها المختلفة بدءا من دستور1923, ممثلة في مجالس المديريات, والبلديات, والمجالس القروية, والتطور نحو المجالس الشعبية المحلية والمجالس التنفيذية من ناحية, وظهور بدايات الإعلام الإقليمي, والحراك السياسي والثقافي والرياضي خارج العاصمة من ناحية أخري, ناهيك عن الخبرات والتجارب الدولية التي استطاعت جميعها أن تحقق مراكز متقدمة بين دول العالم من حيث الإنتاج والتصدير. أما الوهم الثاني; فمؤداه أن اللامركزية تنطوي علي تهديد لتكامل الوطن ووحدة أراضيه. ويمكن الرد علي ذلك من الواقع الدولي الذي نعاصره, ونعيشه, فدول كثيرة مثلنا, اتجهت إلي اللامركزية, ولم يصبها ما ينطوي عليه هذا الوهم, من نزوع إلي التفتت, وغياب للاستقرار, بل ساهم تبنيها للامركزية في تحولها لتأخذ مكانا متميزا بين الدول المتقدمة, وعلات فيها وارتقت مظاهر الحياة الكريمة للمواطن, فدول; كبريطانيا, وفرنسا, واليابان, وغيرها من دول العالم المتقدم, تيقنت من أنه لا سبيل أمامها للتقدم والرقي والازدهار, دون إشراك حقيقي لمواطنيها في دفع عجلة النمو والتنمية, من خلال تبنيها للنهج اللامركزي في توسيع سلطة صنع واتخاذ القرار علي المستوي المحلي. ينصرف معني اللامركزية إلي نقل السلطة والمسئولية في الأمور ذات الصلة المباشرة بحياة أهلنا في المحليات, من الحكومة المركزية إلي المستوي المحلي, ليصبح هذا الأخير صاحب سلطة أصلية وأصيلة في صنع القرار المحلي الخدمي والتمويلي. وليس المطلوب أن يكون النقل من الحكومة المركزية إلي دواوين عموم المحافظات, وإنما إلي كافة المستويات المحلية. أما أنماطها; فتشمل اللامركزية السياسية, وتعني إعطاء المواطنين أو ممثليهم المنتخبين سلطة صنع واتخاذ القرار, والقدرة الحقيقية علي مساءلة القيادات التنفيذية المحلية, واللامركزية الإدارية, وتعني إعادة توزيع السلطة, والمسئولية والموارد المالية لتقديم الخدمات العامة بين مستويات الحكم المختلفة, وهي تتضمن نقل مسئولية التخطيط, والتمويل, والإدارة لوظائف عامة محددة من الحكومة المركزية وهيئاتها إلي مستويات الحكم المحلي, وهناك أيضا اللامركزية المالية. استنادا إلي التجربة الدولية, وملابسات ومتغيرات الواقع المصري, يمكن إجمال أهم هذه العوامل في البنود التالية: بناء ديمقراطية حقيقية قوامها مشاركة وتمكين المواطن المحلي. وتشجيع اقتصاد السوق, الذي يقتضي إفساح المجال أمام المبادرات الفردية والأهلية. والسعي إلي تقديم الخدمات والسلع العامة للمواطنين بجودة أفضل, وبتكلفة تراعي الظروف المعيشية للمواطن المحلي. اضافة إلي محاصرة الفساد, من خلال بناء منظومة للحوكمة المحلية تقوم علي: مشاركة المواطنين, ومساءلة صانع القرار في الأجهزة المحلية, والشفافية في عرض الحقائق, والاستجابة لمطالب المواطنين. وتعزيز وترقية حقوق المواطنين في المحليات بما يكفل لهم حياة كريمة قوامها: سلع وخدمات أجود, وطعام أفضل, وأمن أوفر, ومرافق تكفل راحتهم وتحترم آدميتهم. علاوة علي كفاءة تخصيص الموارد المحلية, علي نحو تتحقق معه وبه الاستجابة لاحتياجات الناس. وبذلك تكون اللامركزية هي الطريق إلي دولة قوية عنوانها الفعالية والكفاءة, ومجتمع قوي عنوانه التنظيم والتأهب والمشاركة الإيجابية. تزداد احتمالات نجاح التحول نحو اللامركزية, مع توافر عدة عوامل تتحصل في: توافر الإرادة السياسية الراغبة في التحول نحو اللامركزية, مع توافر الإرادة المجتمعية بدرجة ملموسة, بجانب الحراك السياسي الفاعل خارج العاصمة, وكذلك الاهتمام الحقيقي بالانتخابات المحلية من قبل القوي السياسية المختلفة, ومن جانب المواطنين المحليين, فضلا عن تنامي الرغبة في تفعيل المجالس الشعبية المحلية حتي ترفع عبء توفير الخدمات عن كاهل النواب والشيوخ كي يتفرغوا لمهامهم الرئيسية في التشريع والرقابة, ومع ذلك, فإن هناك ثمة تحديات تواجه التحول نحو اللامركزية, لابد من التعامل معها, ومواجهتها, حتي تزداد فرص نجاح تطبيق اللامركزية. ويتمثل أهمها في: ثقل إرث المركزية, ونقص الموارد البشرية المحلية المؤهلة لتحمل أعباء ومهام اللامركزية, بالإضافة إلي تعدد وتضارب التشريعات التي تحكم الشئون المحلية, والعزوف لفترة زمنية طويلة عن المشاركة في الانتخابات المحلية ترشيحا وتصويتا, وأيضا الاعتماد علي النمطية في تقديم الخدمة, وتجاهل التنوع الاقتصادي والاجتماعي للمحليات, ثم هناك التحديات المالية ممثلة في الموارد المالية التي تحتاجها المحليات, كونها مركزية بالأساس حتي الآن, فضلا عن أنها غير كافية, وأخيرا; الشكوك في نوايا الأطراف الأجنبية الداعمة لتطبيق الحكم المحلي في مصر.