تفتَح الوعى على ارتباطٍ بأُمِّنَا (الأرض)، تلك التى صب من طينها الخالق قالِبَنَا الأول، ونفخ فيه من روحه ليغدو الأبُ (آدم) بشرًا سويًا، وهكذا بات للطين أو الطمى مكانته فى خلفية التصورات عن الحياة، ومما لا شك فيه أن هذا الارتباط، كان نِتاجَ بساطةٍ أدرك بعض ملامحها أبناء جيلي، فى ثمانينيات القرن الماضي، حين كانت مصر تودع عصر الفلاح الذى يضرب فأسه فى الأرض ليستحثها على طرح خيراتها، وكان ذلك قبل أن يتحكم (التوك توك) فى قطع المسافة بين الفلاح وأرضه!، وقبل أن تبتلع فأسَ الفلاح العولمةُ بقوانينها الجديدة ووسائل تواصلها الإلكترونية مُوجَهَة الفعلْ والتأثير؟. كان الوعى الذى ارتبط بالأرض أُمًا، يرى أصل الخَلّقْ مجسدًا أمام ناظريه، أقراصًا من طمى يخبزها نيلٌ يسرى من بعيد ويمتد شريانًا للحياة فى قلب مصر ناشرًا شبكة أوعيته بأوصال بهية، وأمام هكذا تصور تتجلى فى الآفاق صورة للأصل (آدم) وقد غدت طينته بشرًا سويًا، أنضجته نفخة الله من روحه فيه، وراح يضرب فى الأرض رافعًا هامته عليها تلمع فى وهج شمسها بشرته السمراء، نعم السمراء فما يكون أول إصدارٍ للون بدنٍ استُنْبت من الطين إلا الأسمر؟. كان الوعى المصرى والعربى والإنسانى يتشكل عبر عقودٍ فيما تستهدف تشكله حملاتٌ تسعى لإعادة رسم تصوراته عن العالم، ليُكرس داخل إنسان محيطنا أنه ينتمى إلى (عالمٍ ثالث)، ويتلقى رؤيته عن مكونات الدنيا من حوله وقبلها تصوراته عن عالمه الثالث بعيونٍ غربية، وهو ما ترجمته -وما زالت- السينما الأمريكية فى بدايات القرن عبر أفلامٍ عديدة ربما كانت أشهرها سلسلة (أنديانا جونز)، وتدريجيًا بدأت تتسلل للوعى قوالب ثابتة صنعها من هو بعيد عَنَّا، لجارنا الأسود الذى يعيش فى أدغالٍ بالقرب منَّا، حتى غدا هذا الجار الشقيق فى القارة نفسها محصورًا فى أخبار الانقلابات العسكرية والحروب العرقية والكوارث الإنسانية أو مأسورًا فى أساطير القبائل التى لم تغادر محطة بدائيتنا الأولي. شهِدَ الوعى المصرى فجر البداية الإنسانية، وصنع حضارة التصدر زمانًا ومكانًا وأنتج وطن التنوع العقدى واللونى والثقافي، ولهذا لم يبذر وَعيه يومًا بذور الرفض لآخر، كما لم يغلق ثمار الحياة على بنيه بل طرحها للإنسانية كلها منذ فجر التاريخ، لتكون مقصدًا لكل عابر أو قاصد بغير سؤالٍ عن جنسية أو جنس أو لون أو عقيدة، وهو أصل صكه القدير فى كتابه توصيفًا للوطن المصرى أمام قاصديه «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ»، غير أن دوام الحال من المُحال خاصة حين تكثر سهام الاستهداف وتتداعى على وعى الإنسانية أقوال وأفعال، وجميعها تنامت بعدما لملم المُحتلُ جنده من بدن قارتنا، وأحال مهام احتلاله المباشر إلى أدواتٍ تنخر فى بدن الوعي، أدوات عالمٍ موحش تتنافى مع فطرية القارة وتُنافى كل عوامل البحث عن ذواتنا أو التنقيب عن أصيل إنسانيتنا، استحال الفساد والإفساد سمةً تسعى لتكريسها فى مشهدنا قوى العالم الجديد، وغدا تسييس الدين سلاحًا فتاكًا يضرب ثبات الإنسان الإفريقى عبر حملات تبشير وأخونة وتشييع وسلفنة وتهويد، حملات لا تستهدف الوصول إلى الله قدر استهدافها التمكين من الخيرات والمقدرات والأوطان. يَشهد الوعى المصرى هذه الأيام فعاليات بطولة (كأس الأمم الإفريقية) لكرة القدم، وخلال شهر تفرض إفريقيا نفسها على وعى مصر وأهلها، كما تفرض مصر نفسها على وعى إفريقيا وأهلها، الحدث يتجاوز مجرد صداه الرياضي، كما يتعدى أهدافه السياسية والإعلاميةالتى تنشدها الإدارة، ليغدو فِعلَ استدعاء ما غُيِّبَ بفعل فاعلين كثر خلال عقود ولت، فموقع مصر على خريطة الوجود الإفريقى يوجب عليها التصدر للإنقاذ، ومكانة إفريقيا فى الوجود المصرى توجب على أعضاء بدنها التفاعل، فالمصير مشترك منذ النشأة، والمهددات القديمة والمستحدثة واحدة، والأطماع أغرت أن تتداعى إلى قصعة إفريقيا أيادٍ كثر، يستوى فيها لُعاب الصهاينة وإدارة العالم الجديد مع لُعاب الفرس والعثمانيين الجُدُدْ. يُمكن اعتبار جدارة إدارة مشهد (بطولة كأس الأمم الإفريقية)، منصة قفز لإدارة مشهد مصرى إفريقى قادر على لملمة أشلاء قارة تئن من وطأة سهام الاستهداف، ولمصر أدوات فِعْلِها القادرة على رفع راية البناء والتوحد، بدايةً من الأزهر بما لَهُ من مكانة فى قلوب الأفارقة، ومرورًا بأدوات الثقافة والفنون والعلوم، وانتهاءً بأدوات الفعل الاقتصادى والسياسى والأمني، لقد أثبتت بطولة لكرة القدم أن الحاضنة المصرية الإفريقية قادرة بقرار الشعوب على أن تُنجب واقعًا جديدًا للقارة يصح أن يرفع شعار (مصر إفريقيا) أو العكس (إفريقيا مصر) .. فكلاهما قادر وكلاهما واحد. لمزيد من مقالات ◀ عبد الجليل الشرنوبى