«لقد قضت بريطانيا ثلاثة أعوام مع الزعيم الخاطئ وهى لن تحتمل تكرار الخطأ مرتين... وبالتالى على بوريس جونسون أن يفتح فمه ويتكلم»، هكذا قالت أميلى شفيلد الكاتبة فى صحيفة «ايفننج ستاندارد» بعد نتائج الجولة الأولى من تصويت نواب حزب المحافظين الحاكم لاختيار خليفة لرئيسة الوزراء المستقيلة تيريزا ماي. فقد حصل وزير الخارجية البريطانى السابق بوريس جونسون على 114 صوتاً، يليه وزير الخارجية جيرمى هانت ب 43 صوتاً، ووزير البيئة مايكل جوف ب 37 صوتاً، ووزير البريكست السابق دومنيك راب الذى حصل على 27 صوتاً، ثم وزير الداخلية ساجد جاويد ب 23 صوتاً، ووزير الصحة مات هانكوك ب 20 صوتاً ووزير التعاون الدولى رورى ستيورات الذى حصل على 19 صوتاً. بينما خرج من الجولة الأولى من السباق وزيرة العمل والمعاشات السابقة أستر ماكفي، وزعيمة حزب المحافظين فى مجلس العموم أندريا ليدسوم، ووزير شئون الحكومة السابق مارك هاربر بعدما حصلوا على أقل من دعم 17 نائبا فى البرلمان. الانتصار الكاسح لجونسون، الذى حصد ثلث الأصوات تقريباً ،وضعف أصوات أقرب المنافسين له وهما هانت وجوف، لا يعنى أن فوزه مضمون. فحزب المحافظين لا ينتخب بالضرورة المرشح الأوفر حظا خلال الجولات الأولي. فمثلاً بعد الإطاحة برئيسة الوزراء السابقة مارجريت تاتشر، كان المرشح المتفوق هو نائبها مايكل هيزلتين، لكنه خسر فى النهاية أمام سياسى لم يكن معروفا فى بريطانيا على نطاق واسع آنذاك وهو جون ميجور. وعلى نفس المنوال أتى ديفيد كاميرون من الصفوف الخلفية ليفوز بزعامة حزب المحافظين على المرشح المعروف والأكثر حظا ديفيد ديفيز. لا تفتح فمك! وبالتالى لن ينام جونسون وهو مطمئن البال حتى نهاية يوليو المقبل، موعد اعلان الفائز بسباق خلافة ماي، فأى شيء يمكن أن يحدث ويعطل مسيرته التى تبدو الآن منطلقة بسرعة خارقة نحو «10 داوننج ستريت» ليحقق حلمه منذ كان عمره 6 أعوام عندما سأله والده: ماذا تريد أن تكون؟ فرد: «ملك العالم». لكن كأى ملك، أو مسئول سياسي، يجب أن يتكلم جونسون ويرد على الأسئلة الصعبة حول البريكست، واحتمالات تعليق البرلمان، أو إجراء انتخابات مبكرة، إضافة طبعاً للضرائب والوضع الاقتصادي. والمشكلة أن جونسون لم يفعل هذا بعد. فمدير حملته الانتخابية، لينتون كروسبي، اختار له أكثر الاستراتيجيات الانتخابية أماناً وهي: «لا تفتح فمك طالما كان بمقدورك». وهذا ما فعله جونسون، فخلال الأسابيع القليلة الماضية اختفى عن الرادار تماماً، ولم يعط سوى مقابلة صحفية واحدة مع «صنداى تايمز». وخلال تدشين حملته يوم الأربعاء الماضى لخلافة ماي، سمح للصحافة بتوجيه 6 أسئلة فقط، ثم راوغ فى الإجابة عليها. فعندما سأله أحد الصحفيين هل سيعلق البرلمان كى يمرر اتفاقية البريكست رغماً عن أنف النواب؟ رد جونسون قائلاً إنه يعتقد أن البرلمان سيمرر اتفاقية للبريسكت لأن هذا هو «الواجب الوطني». كما رفض الإجابة على سؤالين حول هل سيستقيل مثل تيريزا ماى إذا فشل فى تمرير اتفاقية البريكست بحلول 31 أكتوبر المقبل؟ وهل تعاطى أى مخدرات فى حياته؟ المراوغة فى الرد على الأسئلة لم تكن المعضلة الوحيدة، بل تناقض ما يقوله لأجنحة الحزب. فصحيفة «التايمز» نقلت عن مصادر إنه قال لنواب من الجناح المعتدل إنه لا يريد تعليق البرلمان، لكنه قال لنواب من الجناح المتشدد إنه سيعلق البرلمان لضمان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى بنهاية أكتوبر المقبل. والخلاصة التى توصل إليها رافائيل بار، كاتب الرأى البارز فى صحيفة «الجارديان»، هى أن جونسون لديه ميزة غير عادلة فى المنافسة مع الآخرين لخلافة ماي. هذه الميزة هى أن هناك «اثنين بوريس جونسون». فالطامح الأبدى فى المنصب سيقول أى شيء لأى شخص كى يتم انتخابه، سيكذب ويحور الحقيقة ويقول الشيء ونقيضه. ولا عجب أنه بعد 24 ساعة فقط من نتائج الجولة الأولى لانتخابات المحافظين، كان المطلب الأكثر تكراراً من السياسيين المنافسين والصحفيين لجونسون وفريقه هي: «تكلم حتى نراك». فمنذ أن أعلنت نتائج الجولة الأولى عاد جونسون للاختباء من جديد، وهو يرفض حتى المشاركة فى مناظرات تليفزيونية مع المرشحين الآخرين تستضيفها قنوات «آى تى في» و «بى بى سي». وهذه هى المعضلة الحقيقية أمام نواب حزب المحافظين. فمن السهل انتخاب جونسون لأنه معروف لدى الناخب البريطانى أكثر من هانت وجوف وهانكوك وستيورات، لكن انتخاب جونسون، كما قالت وزيرة العمل والمعاشات آمبر راد، التى تدعم حملة هانت، قد يكون أكبر خطأ يرتكبه الحزب. فجونسون شخصية استقطابية بشكل حاد، ومع أن مؤيدى البريكست الخشن يدعمونه، إلا أن الجناح المعتدل فى الحزب لا يحتمله. كما أن الاتحاد الأوروبى لا يحبذه كشريك مفاوض، وإذا ما انتخب، فإن المفاوضين فى بروكسل سيكونون أكثر تشدداً مع بريطانيا بسببه. والأسوأ أنه قد يقضى على حزب المحافظين فى اسكتلندا ويسرع وتيرة مساعى اسكتلندا لإجراء استفتاء ثان لاستقلالها عن بريطانيا. فمثلاً وعد جونسون بإجراء استقطاعات ضريبية لصالح الشريحة العليا من الطبقة الوسطي، أثار فوراً رد فعل غاضب فى اسكتلندا لأنه يعنى أن دافع الضرائب فى اسكتلندا سيمول استقطاعات ضريبية للميسورين فى لندن. الحقيقة العارية «الكلام المعسول لن يقود حزب المحافظين لأى مكان»، تقول ايزابيل ديفيدسون العضوة فى الحزب موضحة: «بريطانيا إذا أرادت خروجا منظما من الاتحاد الأوروبى لن يمكنها فعل ذلك يوم 31 اكتوبر المقبل. يجب أن نطلب التأجيل مرة أخرى ويجب أن نوضح لأعضاء الحزب وللناخب البريطانى لماذا نطلب تأجيلا جديدا». قول الحقائق العارية مهمة خطيرة لأى سياسى لأنها تعنى خسارة أصوات الحالمين والمخدوعين. لكن هناك من يجازف وسط المرشحين، أولهم رورى ستيورات وزير التعاون الدولى «السياسى البوهيمي» المثقف خريج «كلية أيتون» وجامعة «اكسفورد»، على غرار جونسون. فستيورات، الذى يعتبره البعض «اكتشاف» المراحل الأولى من سباق خلافة ماى قال خلال حملته إن بريطانيا لن تكون قادرة على الخروج من الاتحاد الأوروبى يوم 31 أكتوبر. كما قال إن جونسون، وإن هدد بتعليق البرلمان، إلا أنه لن يفعل هذا لأنه يدرك أن البرلمان سيسقطه وستدخل بريطانيا فى دوامة انتخابات عامة مبكرة. أيضا رفض ستيورات، وهو المرشح الوحيد الذى فعل هذا، الوعد بإستقطاعات ضريبية للأغنياء والميسورين، قائلاً إن الميزانية فى بريطانيا لا تحتمل هذا، بسبب العجز فى تمويل برنامج الرعاية الصحية والشرطة والخدمات الاجتماعية. هذه الصراحة أكسبت ستيورات كثيرا من المؤيدين، وهناك احتمال كبير أن يتأهل للمرحلة الثالثة من الانتخابات. وهى صراحة يشاركه فيها، ولو جزئياً، معسكرا المرشحين مايكل جوف وجيرمى هانت، اللذين قالا إن هناك احتمالات قوية ألا تكون بريطانيا قادرة على مغادرة الاتحاد الأوروبى بحلول نهاية أكتوبر. جيرمى هانت، المليونير العصامي، المنظم جداً الذى حل فى المركز الثانى بعد جونسون فى الجولة الأولى لديه فرصة لتعزيز حملته بالمزيد من الصراحة، وربما الضرب تحت الحزام فى مرشح المقدمة. فبوريس جونسون مفاوض سييء، بينما هانت مفاوض جيد جداً. فالرجل المتزوج من سيدة أعمال صينية والذى يتحدث اليابانية بطلاقة، قادر فى نظر فريقه على حل المعضلات العالقة مع الاتحاد الأوروبي. وهى ميزة يتمتع بها أيضا جوف «رجل التفاصيل»، ومات هانكوك «النجم الصاعد» فى الحزب. وفى نظر البعض ،مثل ايزابيل ديفيدسون، فإن أيا من هؤلاء المرشحين سيكون أفضل للحزب ولبريطانيا من جونسون «المختبئ» الذى لا يستطيع أن يفتح فمه بدون أمر من مدير حملته القوى لينتون كروسبي. لقد انتخب حزب المحافظين تيريزا ماى عام 2016 خلفاً لديفيد كاميرون بشكل سريع وبدون تمحيص كاف أملاً فى أن تخرجهم من ورطة البريكست لكنها عمقت الورطة. فهى وأن كانت إدارية ممتازة، إلا أنها لا تتمتع بالكاريزما أو المرونة السياسية. ومعضلة جونسون، أنه وإن كان يتمتع بالكاريزما فى نظر البعض، إلا أنه ليس «رجل تفاصيل»، وبالتأكيد ليس «رجل الثقة» فى وقت تحتاج فيه بريطانيا لشخص تثق فيه، ملم بكل تفاصيل عملية البريكست المعقدة. فالشعبية وحدها لا تصنع رئيس وزراء ناجحا.