منذ قديم الزمن، تفاعل الإنسان مع البيئة الطبيعية المحيطة به، واستخدم مواهبه فى إيجاد ما يفى حاجاته من الغذاء والمسكن، فكانت مبتكراته طبيعية من مواد قدمتها له البيئة، فانتشر البناء بالطين وبتناغم مع البيئة فى حضارات بلاد الرافدين ومصر، والحضارة العربية والإسلامية، وفى الهند والمكسيك وحضارات متنوعة بإفريقيا، واعتمد السكان المحليون فيها على تقنيات بسيطة مرتبطة بالذوق والانسجام الجمالي، وعرفوا الفوائد الفيزيائية للطين فتعاملوا معه، ووظفوه التوظيف الأمثل ليستجيب للمتطلبات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للناس، مع مراعاة المحددات البيئية كالمناخ ونوعية التربة. وأكتب إلى «بريد الأهرام» عن مقاربة اكتشفتها عندما انتهيت من ترجمة كتاب «من المهد إلى المهد..» للمعمارى الشهير وليم ماكدونو الذى يعمل اليوم فى مجال العمارة الخضراء وتم اختياره واحدا من أحد عشر مستشارا عالميا لتنفيذ مشروع «النيوم» السعودى وقد سبقه إليها أى العمارة الخضراء المعمارى المصرى العظيم المهندس حسن فتحى، الذى قام بتأليف واحد من أهم كتب العمارة الخضراء فى العالم وهو كتاب «عمارة الفقراء» الذى نشره باللغة الإنجليزية فى أمريكا، وترجم إلى 22 لغة، وحقق شهرة عالمية، واعتمدته كبريات كليات العمارة فى الولاياتالمتحدة وحول العالم فى خططها الدراسية، واعتبر من الكتب الرائدة فى مجال العمارة الخضراء (الصديقة للبيئة)، ومن ثم ترجمه للعربية المهندس مصطفى فهمى. أما عن الانطباعات التى جعلتنى أربط بين هذين المعماريين المهمين، المصرى حسن فتحى والأمريكى وليم ماكدونو، فهى أن المهندس حسن فتحى (1900 1989)، معمارى مصرى بارز، من مواليد الإسكندرية، وتخرج من المهندس خانة (كلية الهندسة حاليًا) بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا)، واشتهر بطرازه المعمارى الفريد الذى استمد مصادره من العمارة الريفية النوبية المبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة فى العصرين المملوكى والعثماني، وتعد القرنة بالأقصر التى بناها ليقطنها 3200 أسرة، جزءا من تاريخ البناء الشعبى الذى أسسه بما يعرف ب «عمارة الفقراء»، ويعد واحدا من أهم 100 معمارى بالعالم فى القرن العشرين. أما وليم ماكدونو فمن مواليد 1951، هونج كونج، وهو مهندس معمارى أمريكى ومؤسس لشركة تتركز مهنتها فى تصميم المبانى المستدامة بيئياً، وفى عام 2002 كتب (مع مايكل براونجارت) كتاب «من المهد للمهد.. إعادة تشكيل طريقة صنع الأشياء»، وفى عام 2004 حصل على جائزة التصميم الوطنى للتصميم البيئى من متحف سميثسونيان كوبر، وتأتى المقاربة بين المعماريين حسن فتحى ووليم ماكدونو فى العديد من الأوراق والكتب العلمية التى تتحدث عنهما كمثالين من المعماريين العمالقة، والتى كانت رؤيتهما هى الرجوع إلى وسائل البناء التقليدية المستمدة من البيئة المحلية كوسيلة للتنمية المستدامة، واستخدام منتجات البيئة بشكل عام لبناء منازل أكثر راحة ونظافة بتكلفة أقل، واستلهام الأساليب التقليدية فى البناء، بالإضافة إلى ما قام به وليم ماكدونو بعمل دراسات هيدرولوجية حول التركيب الحيوي، وطرق الزراعة، واتجاهات الرياح والشمس للتأكد من أن جميع من فى المكان سيحصلون على هواء نقي، من مياه عذبة وضوء شمس مباشر فى كل وقت خلال اليوم. لقد قدم فتحى وماكدونو عمارة مختلفة، مفعمة بالحياة والمعنى، وأمضيا عمرهما فى سبيلها؛ إنها عمارة للإنسان، وفى سبيل الإنسان، قبل أيّ غاية أو منفعة أخرى. د. حامد عبد الرحيم عيد أستاذ بعلوم القاهرة