الشيخ يرفض المرويات التى تعارض القران او الحقائق العلمية والمعاير العقلية سجال علمى راق بين الالبانى والمؤلف حول صحة بعض الاحاديث فى هوامش الكتاب “إن الحضارة التى تحكم العالم مشحونة بالأخطاء والخطايا، بيد أنها ستبقى حاكمة مادام لا يوجد بديل أفضل .. هل البديل الأفضل جلباب قصير ولحية كثة؟ أم عقل أذكى وقلب أنقى وخلق أزكى؟» هذا ما كتبه الشيخ محمد الغزالى منذ أكثر من نصف قرن حول قصور رؤية البعض للسنة النبوية، والآن.. ومع انتشار التطرف ومع سقوط ضحايا جدد للإرهاب يوما بعد يوم، تترسخ أكثر على مستوى العالم المخاوف من الإسلام والمسلمين، وتترسخ الصورة المشوهة للمسلم الخارج عن حدود الزمن.. القادم من جوف الكتب المتهالكة الصفراء محملا بجهالته، وضحالة فكره، وسوء خلقه، وامتهانه للنساء، ومحاربته للعلم، ورغبته العارمة فى سفك الدماء. ..................................................... والفتيان – المراهقون غالبا - الذين يقومون بنشر مثل هذه الأفكار وينشرون معها الترويع والتفجير، إنما يستندون فى ذلك إلى مرويات ضعيفة، أو أحاديث لا يعتد بها لمخالفتها نصوصا قرآنية ثابتة، ليشكلوا بجهالتهم أشد معول لمحاربة الإسلام وهدم سنة نبيه، وهم يحسبون – مع حسن نيتنا – أنهم يحسنون صنعا، أو يعلمون – مع سوء نيتهم – أنهم يعملون عمل المفسدين. وللشيخ الغزالى (1917- 1996) كتاب مهم بعنوان “السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث»، يشكل مع كتابه الأشهر «فقه السيرة» وجهة نظر الرجل فى التعاطى مع الأحاديث النبوية، والنظر فيها، والأخذ والرد منها استنادا إلى موافقتها أو مخالفتها للنص القرآنى أو تماشيها مع قيم الإسلام الكبرى، وكذلك موافقتها للعقل والفطرة السليمة. ففى «فقه السيرة» لم يلتزم الغزالى بما جرى عليه المؤرخون القدماء من سرد الآثار وتسجيل ما قل أو عظم من أحداث، لكنه تجاوز حدود الوقائع التى يحفظها معظم المسلمين من سيرة الرسول العظيم، إلى التعليل والموازنة وربط الحوادث المختلفة فى سياق متماسك، فالرجل لا يرى فى (مجرد) سرد سيرة الرسول بوقائعها وأحداثها شيئا ذا قيمة، لأن محبة الرسول (الحقة) تكمن فى اتباع أثره، والتأسى به فى عباداته ومعاملاته وأخلاقه .. حربه وسلمه .. علمه وعمله، وليس فى التغنى بسيرته: «فمحمد ليس قصة تتلى فى يوم ميلاده، كما يفعل الناس الآن، ولا إكنان حبه يكون بتأليف مدائح له، أو صياغة نعوت مستغربة يتلوها العاشقون ويتأوهون أو لا يتاوهون، فرباط المسلم برسوله الكريم أقوى وأعمق من هذه الروابط الملفقة المكذوبة»، فالمسلم – فى رأى الغزالى – الذى لا يعيش الرسول فى ضميره، ولا تتبعه بصيرته فى عمله وتفكيره، لا يغنى عنه أبدا أن يحرك لسانه بألف صلاة فى اليوم والليلة. ولعل هذا التناول للسيرة، ومفهوم الشيخ لعلاقة المسلم بها، ونظرته لهذا الارتباط (الممجوج) للمسلمين بالوقائع والمرويات المأثورة دون تمحيصها، أوقعه فى خلافات مع طوائف عدة، فقد هاجمه كثير من المتصوفة واعتبروه متجاوزا، حيث لا تخفى فى كتاباته لغة الهجوم عليهم ، والتهكم على طريقة تعبيرهم عن محبتهم للرسول الكريم، فى ظل تهاونهم فى كثير من أمور العبادات أو العقائد أو ترتيب الأولويات. كما تعرض الغزالى لهجوم حاد من (فتيان) السلفيين الذين لم يتورعوا عن تناوله بأحط الألفاظ ، معتبرين أن الرجل ينكر بعض الأحاديث أو المرويات المدونة فى الصحاح ( مثل حديث الغرانيق أو حديث غزوة بنى المصطلق أو حديث سحر اليهودى للرسول ... وغيرها)، والحقيقة أن الغزالى بالفعل لا يتورع عن ذلك استادا لمنهجه الذى سبقت الإشارة إليه، والذى يلخصه فى خاتمة كتاب «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث»، حيث يقول: “إن حديث الآحاد يتأخر حتما أمام النص القرآنى والحقيقة العلمية (الدنيوية) والواقع التاريخى، أو يتأخر كما يقول المالكيون أمام عمل أهل المدينة، وأمام القياس القطعى كما يقول الأحناف». والغزالى حين دعا إلى زيادة التدبر لآيات القرآن الكريم، وإلى توثيق الروابط بين الأحاديث الشريفة ودلالات القرآن القريبة والبعيدة، وحين دعا إلى البحث فى السياق الزمانى والمكانى وسياق الأحوال التى وردت فيها أحاديث معينة لم يكن بدعا بين العلماء، فقد سبقه فى ذلك كثيرون، لكنهم جميعا يندرجون تحت لفظة «العلماء»، ممن قضوا سنوات طويلة من عمرهم فى دراسة القرآن واللغة والحديث والفقه... وغيرها، وليس كل عابر يلتقط آية من هنا ليلفقها مع حديث من هناك ويلضمهما برواية مكذوبة لم تثبت لها صحة، ليخرج على العامة من شاشة أو صحيفة متباهيا ببعض قشور العلم التى لم يتعدها، مدعيا الدفاع عن السنة بينما الهدف الخفى طعنها من كل جانب. ولم يقتصر نهج الغزالى فى تناول المرويات على العلماء فقط، لكنه امتد كذلك إلى بعض كبار الصحابة أنفسهم، فهذا الفاروق عمر يرفض حديث فاطمة بنت قيس بسقوط حق المطلقة فى السكنى والنفقة، قائلا: «لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندرى حفظت أم نسيت؟.. لها السكنى والنفقة»، والخليفة الثالث عثمان ابن عفان أكمل الدية للذمى فجعلها مساوية لدية المسلم لأن «النفس بالنفس» دون تفرقة على أساس دين أو جنس، أما السيدة عائشة فقد كانت لها اجتهادات شتى فى هذا المجال، حيث أنكرت بعض الأحاديث الشاذة فى تفسير سورة النجم وقوله تعالى: «ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى»، فقالت رضى الله عنها: «من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب»، واستندت فى ذلك للآية: «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار...»، و»وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب»، وقالت أيضا: «ومن حدثك أن محمدا يعلم ما فى الغيب (أحاديث ملاحم آخر الزمان) فقد كذب» واستندت إلى الآية: «وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأى أرض تموت». فمن يكون أحرص على السنة من عمر وعثمان والسيدة عائشة رضى الله عنهم ؟، إلا أنهم لم يتورعوا أن يعرضوا الحديث على كتاب الله فإن خالفه استبعدوه وأنكروه، وهذا ليس ببعيد عما سلكه الغزالى فى كتابه «فقه السيرة» الذى راجع أحاديثه ونقد أسانيده ومتونها الشيخ ناصر الدين الألبانى الذى يعد إمام أهل الحديث فى العصر الحديث، ويتخذه المحدثون وطلبة العلم من السلفيين إماما وشيخا، وهنا تكمن قيمة العلماء الحقيقيين، فلا الغزالى استكبر أو اعتبر كتابه فوق المراجعة العلمية، لكنه أسنده إلى عالم كبير فى مجال تخصصه «علم الحديث»، ليراجع أحاديثه حتى تكتمل المنفعة، ولا الألبانى استكثر أن يراجع للغزالى أحاديث كتابه، فكلا الرجلين ينشد المنفعة العامة، ورغم ما فى الكتاب من هجوم على أحاديث يرى الألبانى صحتها (مثل حديث غزوة بنى المصطلق)، واستناد الغزالى لأحاديث يرى الألبانى ضعفها، إلا أن كلا الرجلين لم يفقد احترامه وتقديره لعلم الآخر ومكانته، فلولا تقدير الألبانى للغزالى لما شارك فى تخريج أحاديث كتابه، ولولا معرفة الغزالى لقيمة وعلم الألبانى لما منحه هذا الحق، وقد تجلى هذا التقدير فى مقدمة الطبعة التى راجعها الألبانى، حيث يقول فيها: «سرنى أن تخرج هذه الطبعة الجديدة بعد أن راجعها الأستاذ المحدث العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألبانى»، بينما لم يذكر الألبانى فى تعقيباته اسم الغزالى مجردا فى أى من تعقيباته، وإنما يشير إليه دوما ب «الأستاذ». وفى تخريجات الألبانى وتعقيبات الغزالى على تلك التخريجات فى هوامش الكتاب نزهة عقلية ممتعة، وسجال علمى شائق يليق بعالمين كبيرين، ربما لا تحتمل تسامحهما عقول فتية قيل فيهم «إنهم يطلبون العلم يوم السبت، ويتعلمونه يوم الأحد ، ويعملون أساتذة له يوم الإثنين، أما يوم الثلاثاء فيطاولون الأئمة الأربعة ويقولون نحن رجال وهم رجال» ، وهؤلاء هم ضيقو الأفق من أنصار فقه البداوة، من أنصاف المتعلمين وأنصاف المتدينين، الذين يعتمد عليهم “الآخرون» لترويج صورهم وتصوراتهم المغلوطة والمشوهة عن الإسلام، بعد أن قلبوا بمحدودية نظرهم شجرة التعاليم الإسلامية، فجعلوا – كما يقول الغزالى – الفروع الخفيفة جذوعا أو جذور، وجعلوا الأصول المهمة أوراقا تتساقط مع الرياح.