من باب تسلية الصيام يجلس (أيوب المصري) بين يدى معاجم اللغة ليُفتش عن أصل معنى كلمة تسلية النفس، وقاده البحث إلى إجماع على معنيً هو (إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى النَّفْسِ وَإِبْعَادُ الضَّيْمِ عَنْهَا )، وحيث أن (سلِّى صيامك) بات الشعار المفروض بفعل الواقع والممارسة خلال عقودٍ وَلَّتْ، كان على (أيوب) أن يُفتِّش فى دفاتر الواقع أملًا فى بلوغ ما يسلى نفسًا أثقلها ما تحمل من تحديات الواقع. يتذكر (أيوب) أن الصيام عبادةٌ امتناعٍ بدنى إراديّ، تستهدف تسلية الروح فلا تملكها الدنيا وإن امتلك صاحبها كل زينتها، هكذا عاش كل مصرى عبر سنواتٍ باتت تاريخا، واستحال الواقع مُجرَّد طقوس على كل مستوي، إذ بات على مصرى أيامنا أن يعيش عصر طغيان الشَبَهِيَّة، حيث أشباه صائمين يُمارسون فعلًا يُشبه الصيام فى أوقات يشملها ما يُشبه العمل والأُسر والمجتمع والحياة. حين يرمى (أيوب) ببصره إلى أسقف أزقة وحوارى وشوارع المعمورة، يكتشف أن زينة رمضان المصرية التى تكسو بدن الليالى الرمضانية رغم ما يبدو من دقة صناعتها إلا أنها تفتقر إلى عفوية أيادى الصناعة، وإلى حميمية الجمع من الصُنَّاعْ، وإلى بهجةٍ تطبخها المحبة لا الكُلْفَة، صحيح استحالت زينة رمضان كهربائية وإلكترونية وعالية الجودة، لكنها أيضًا باتت مُعلَّبة الإنتاج وغريبة المنشأ، أيُ بهجة خاصة يلزمها إنتاج أكثر خصوصية فما بالنا إن كانت زينة بهجتنا الخاصة مستوردة؟!. إن (أيوب) كان شاهدًا على رمضان المصرى حين كان يحل فى أرجاء المعمورة، حين كان أهلها لها عُمَّارًا، كان رمضاننا بنا مميزًا، وكنَّا به نُخَمِّر للدين شرابه الذى تصبه كؤوس المحبة فى قلوب عليها يٌفطر كل مؤمن بالوطن، ويستوى فى إيمانه بالوطن حسن ومرقص وكوهين وآخرون لا نعلمهم الله يعلمهم، كان رمضان المصرى ينزل فى أرضٍ وطنٍ إنسان، فكان يتسلى به ومعه وله. يَحَارْ (أيوب) فى مُحاولات التسلية عبر المُتاح من أسباب واقعنا، بعدما اقتحمته أدوات العالم الجديد، قديمًا كان أصواتٌ الشيخين محمد رفعت ومصطفى إسماعيل غيرهما تسرى فى آفاق مصر قبل المغرب بساعة، جمالاً يطوف على بيوت مصر، ورحمات تنهمر على رؤوس من سمع، كان لمصر مبدعوها من أهل القرآن، حين كان لأهلها فطرية الذائقة المصرية قبل أن تعلق بها شوائب التطرف قبولًا ورفضًا، وقبل أن يفرض علينا المال السياسى نسخًا جديدة من الإسلام خالية مما ينير العقول أو يُسلى الأرواح. فى ظل الخلط بين التسلية الرمضانية وألعاب الهواتف المحمولة، بات (أيوب المصري) على يقين من أن التسلية الرمضانية المصرية غائبة تمامًا عن مشهد واقعنا، وبالبحث عن السبب تُشير كلُ المؤشرات إلى غياب العنصر الرئيس فى عملية التسلية والمقصود به هنا (الشخصية المصرية)، تلك الناتجة عن إرث إنسانى قديم قدم الإنسانية، والقادرة حال استنهاضها على أن تستقبل رمضان المصرى بكل أسباب التسلية الشديدة الخصوصية، والتى بدورها تحمل الوطن إلى خارطة الحضور إقليمياً وعالميًا. حين يُقلب (أيوب المصري) بين كل أدوات الفعل الإعلاميّ، يكتشف أنها على تصنيفاتها وطنية ومُنحازة ومُعادية موجهة، جميعها لا تُفتش عن الضيف (رمضان المصري) ولا عن المُضيف (الشخصية المصرية)، ولا عن تسلية خاصة تُناسب خصوصية الحدث وأهله، وفى مكامن القوة الكامنة بهذا الوطن وأهله من أسباب النهوض ما يَستحق أن يُستدعى بعيدًا عن إعلام يُسلى ميزانياتٍ تصنعه. لا يجد (أيوب المصري) إلا أن يتسلى بالذكري، يستحضر طيفًا طمسه الواقع لوطنٍ حاضرٍ بناسه، حين كان تعدادهم أقل كثيرًا ما هو اليوم، وحيث إن الإنسان هو صانع الأوطان، فحين يتضاعف العدد لن يعدم الخلف جينات الإبداع التى كانت فى السلف، وحينها تكون التسلية بحثًا واستنهاضًا ورفعًا لكل ركام الواقع، وحينها سنكتشف أصواتًا تقرأ القرآن بروح مصرية تباركها أرواح المبدعين الأولين رفعت وإسماعيل والنقشبندى والمنشاوى وعمران وغيرهم، وبالتنقيب يصطف معهم أحفاد سيد درويش والشيخ محمد عبده ويحيى المشد ونجيب الريحانى وسميرة موسى وبيرم التونسى وصلاح جاهين وغيرهم كثر. تظل التسلية الوطنية هى أنيس ليالى أيوب المصرى الرمضانية، يراها الفرض فى الشهر الكريم، تمامًا كما هو فرضٌ الأمل على كل مؤمن بوطن، وطالب لكل مدد السير على درب غده القادم، وهكذا يطوف أيوب فى ليلٍ أوشك على الرحيل ودنا سحوره وفجره، تسرى مُناجاته يختلط فيها الإيمان بالأوطان برمضان (يَا لِيلِى عَ اللِّي، قَلْبُهْ تَمَلِّي، مَشْغُولْ يَا خِلِّي، سَرْحَانْ و هَايِمْ* طَوافْ و طَايِفْ، طَرّحُهْ قَطَايِفْ، سَواهَا طِيفْ، و قَطَفْهَا صَايِمْ* والحَشّوْ شُوقْ، وعَسَلُهْ طُوقْ، تِفُوتْ تِدُوقْ، تِصْحَى يَا نَايِمْ* يا لِيلِى جَلِّي، حَضْرِةْ تَجَلِّي، ومَدَدْهَا آآآآه ... يَا وطن و دَايِمْ). لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبي