يجلس أيوب المصرى على دكة العمر الطويل، فى وطن عجنه روحاً وطحنه بدنا، الصيام الطويل فى حر طقس لا يراعى ظروف المعيشة الصعبة، يدفع أيوب إلى البحث فى التليفزيون عما يُسلى صيامه، يُصبح أمام خيارات متعددة للمتابعة، الدنيا قاطبة بين يديه يقلب فيها عبر (ريموت كونترول)، الشاشات تنقله بين أرجاء الوطن العربى والإسلامي. فسحة فى أحوال البلاد التى كان قديماً يسمع عنها من حكايات المغتربين حين يعودون من بلاد الأشقاء والشقاء حاملين عملة صعبة قبل أن تصبح مستحيلة-، وهدايا وانطباعات شخصية للبلاد البعيدة. فى شاشات العراق يسمع أخباراً عن حقوق الشيعة يتشنج بها مذيع، ويقلب فترميه الشاشة الجديدة إلى إعلامى كردى يصرخ مطالبا المجتمع الدولى بالتدخل لحماية الأكراد، ولا يلبث «أيوب المصرى» أن يضغط على ال ريموت. فيسمع فى الفضائية الإخبارية العالمية خبيراً أجنبياً يتحدث عن آثار الإنسانية التى نهبتها الفوضى فى بلاد الرافدين. ويغادر سريعاً بينما يزدرد بقايا لعاب جاف فى حلقه الذى يئن عطشاً وهو يطالع القلة الواقفة فى شموخ بين يدى حاملها الحديدى المزروع فى مدخل شباك الغرفة، يهتف (اللهم إنى صائم). ينقله طبق الاستقبال الفضائى إلى باقة من قنوات التليفزيون السورية، جميعها تؤكد أنها المعبرة بصدق عن حقوق الشعب السوري، جميعها يطالب المجتمع الدولى بالانحياز إلى الإرادة الشعبية التى تطالب بممولى هذه القنوات حكاماً لسورياً، وجميعها تعلن عدد الشهداء فى صفوف متابعيها وصوراً ل (الشبيحة) الذين أسروهم فى معركة تحرير سوريا. ومن النافذة تتبدى وجوه متعددة لأطفال كثر يقفون فى (بلكونة) المنزل المقابل لبيت (أيوب المصري)، الأطفال سوريون حملتهم أيادى التهجير من وطنهم إلى مصر، وحملتهم الحاجة إلى أن يكتظوا فى (علبة سردين) يطلقون عليها شقة، تراقب عيون الطفولة الحزينة حركة الشارع فى وطن يؤوى لكنه لا يعوض الأصل، يزفر أيوب من تباين المشهد التليفزيونى مع الواقعي، يقلب القنوات وهو يتمتم فى ضيق (تحرير يا ولود ال ..) ويتذكر فيهتف ونظره يتطلع فى خجل إلى أعلى الغرفة (اللهم إنى صائم). يكسو الشاشة الجديدة سمار الجنوب الأصيل، يتذكر الصوت السودانى الحميم (مصر والسودان هِتة واحدة)، يحدث أيوب المصرى نفسه (فى السودان أصل الطيبة وأبونا آدم كان سودانيا أو إفريقيا)، لكنه يكتشف أن المذيع يتحدث عن شمال السودان منتقداً جنوبه، ويدلل على صدق مواقفه بآيات من كتاب الله وأحاديث ينسبها لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وتلح على ذاكرته أيام عايشها حين انفصلت عن مصر السودان، وحين غزا إسلام غير الذى يعرفه أرض النيل النجاشي، فأرغم ابنة جاره السودانية على الفرار من السودان إلى مصر بعدما اعتبرتها القيادة هناك خطرا على العقول لأنها لا تلتزم بالإسلام حجاباً ! حينها اعتبر أن السودان الذى كان يعرفه قد وقع فى أسر احتلال من نوع جديد، يزفر آسفاً وهو يتمتم (الله يرحم أيام الحتة الواحدة، ويلعن أبو ..) ويغلق فمه بيده وهو كسير النظرة يقول (اللهم إنى صائم). فى قنوات أخرى كثيرة يتجول أيوب المصري، يكتشف أن ليبيا صارت قنوات فضائية بعدما كانت وطنا، وتونس تعبر عنها قنوات لم يستطع حصرها، أما فلسطين فلقنواتها طلة الكفاح الموجه، كل قنواتها تحارب وجميع مذيعيها يتشدقون بشعارات الجهاد والحق المقدس ومعركة التحرير فى مواجهة سلطة الاستبداد العميلة التى تسيطر فى حكومة «غزة» أو سلطة الفساد العميلة فى حكومة «رام الله» والكل يقسم (هنحررها)، يرفع (أيوب) جلبابه يمسح وجهه الذى يكسوه عرق لا تسيطر عليه المروحة العتيقة، يخلع الجلباب كله يمسح به كتفيه وتحت الإبط ويرميه بعصبية وهو يقول (تحرروا مين يا شوية ..) ويتذكر فيطأطئ رأسه (اللهم إنى صائم). يعود إلى قنوات مصر أم الدنيا، لن يشاهد أياً من برامج السياسة وسيترفع عن متابعة أى قناة بها نشرة أخبار وسيقصر متابعته على الدين والدراما والفكاهة والرياضة، رافعاً شعار الفنان الكبير شعبان عبد الرحيم (كبر دماغك كبرها وإديها اللى يقدرها)، وفى أولى محطات رحلته الإعلامية الوطنية يخالط مذيعاً يحاور شيخاً عن (حكم استخدام الشطاف فى رمضان ذلك الحكم الذى أصدرته لجنة فتوى رسمية وسلطت عليه الضوء كبريات الصحف فجعلته مادة ثرية للبيع)، يركز أيوب فيكتشف أن المقصود هو الشطاف الذى يكون فى الحمام! تهاجمه لسعة حر فيتصبب عرقاً لا يدرى تحديداً مصدره وهو الذى لم يشرب فى السحور نصف ما عرقه، يعلو صوته اللهم إنى صائم، يقلب فيجد خبراً يؤكد أن النجم فلان حصل على أجر يتجاوز الثلاثين مليون جنيه بينما لم يحصل النجم علان إلا على خمسة وعشرين مليونا، ويغير القناة فيواجهه المعلق الرياضى الذى يدافع عن موقف زميل له اعتدى بالشومة على الهواء على منافس له فى حوار، يغير المحطة فيكتشف أن قنوات التنظيم الإخوانى يطل منها أخ فنان يمثل دور ضرير ويؤكد بفخر أن اسم برنامجه (ليالى الشيخ بحه). وعندها لا يتحمل أيوب المصرى يرمى الريموت كونترول وهو يهتف (هيا وصلت للشيخ بحه يا أخى ... ) ويتذكر صيامه الذى يوشك على التفلت منه يهتف (اللهم إنى صائم لكن هما اللى مش سايبينى فى حالي). ويسحب فيشة التليفزيون ويقرر أن يحضر السلطة للإفطار بينما يسمع قرآن المغرب للشيخ محمد رفعت. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى