فيما يبدأ شهر رمضان الفضيل بنفحاته الإيمانية المباركة، فإن لهذا الشهر فرحة لا تعادلها فرحة عند المصريين الذين يترقبون كل عام أيامهم في حضرة الشهر الكريم بينما تتحول مصر في الواقع إلى حاضرة الكون الرمضاني. وإذ يقول مفتي الجمهورية الدكتور شوقي علام إن "شهر رمضان ميدان العمل الصالح"، لافتا إلى قيم إيمانية ومعان رمضانية من بينها فعل الخيرات وثقافة "إتقان العمل" يكاد المصريون في عشقهم لشهر الصيام يتمنون أن تكون "السنة كلها رمضان". وليس من الغريب أن تكثف المؤسسات الثقافية أنشطتها خلال شهر رمضان الذي يحظى دوما باهتمام ثقافي مصري، وها هي الهيئة المصرية العامة للكتاب تقيم معرضها الرمضاني الذي عرف "بمعرض فيصل للكتاب" ويدخل دورته الثامنة هذا العام وكذلك تبدأ الهيئة العامة لقصور الثقافة أنشطتها الثقافية الرمضانية بقصور وبيوت الثقافة على امتداد الخارطة المصرية. وتتعدد الأنشطة الثقافية المصرية هذا العام ما بين دار الأوبرا التي تقدم عروضا من التراث الموسيقي والغنائي وأمسيات للإنشاد وصندوق التنمية الثقافية بفعالياته الثقافية والفنية في المواقع التراثية والأثرية والتي تتضمن الإنشاد الديني وحفلات موسيقية وغنائية ومعارض للحرف التقليدية والفنون التشكيلية والخط العربي إلى جانب قطاعي الفنون التشكيلية والإنتاج الثقافي بوزارة الثقافة. كما يقدم صندوق التنمية الثقافية أمسيات في "بيت الشعر العربي" إضافة لعروض فنية بالتعاون مع البيت الفني للمسرح ويقدم البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية استعراضات لفرقة رضا وفقرات للسيرك القومي وينظم والمركز القومي لثقافة الطفل برنامجا مكثفا لرواد "الحديقة الثقافية بحي السيدة زينب القاهري" ويقدم مسرح العرائس أوبريت "الليلة الكبيرة" للمبدعين الراحلين صلاح جاهين وسيد مكاوي. وإذ شرعت الصحف ووسائل الإعلام حول العالم في نشر صور الإطلالة الرمضانية من كل مكان بين أركان الأرض الأربعة، فإن مصر تفتح ذراعيها دوما مرحبة بضيوفها القادمين من دول شتى ويحرصون على استرواح النفحات الإيمانية الرمضانية في أرض الكنانة. وبكلمات تسيل عذوبة في حب مصر يقول الكاتب الصحفي اللبناني في جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية سمير عطا الله:"كثير الخلق في القاهرة خلافا لأي عاصمة عربية وقومها نموذج التنوع الذي من به الخالق على الكون". وإذا كان هذا الكاتب الكبير قد رأى أن "القاهرة تقدم للآخرين عرضا رائعا ومذهلا لقوتها الناعمة" بتاريخها ورجالها والوجوه الباسمة في الزحام فإن الأمر يصل لذروته في شهر رمضان وها هو يشير لأماكن قاهرية تقترن في الأذهان "برمضان المصري" كالأزهر ومسجد الإمام الحسين ومقاه"منحها نجيب محفوظ من اسمه ومن شهرته ومن عشقه لمصر". و"رمضان المصري" يعادل حي الحسين الذي لا يكاد يكتمل الشهر الفضيل بالنسبة لكثير من المصريين والعرب والأجانب دون قضاء ليلة في رحاب وعبق هذا الحي القاهري ما بين المسجد الحسيني والجامع الأزهر وخان الخليلي. فمازال حي الحسين علامة رمضانية مصرية بامتياز بحلقات الإنشاد الديني والمقاهي ومشغولات الحرفيين المهرة فيما أمسى شارع المعز لدين الله تحفة للناظرين وبهجة للساهرين بين جنباته التي تعود للعصر الفاطمي والبيوت والأسبلة والوكالات التجارية العتيقة. وذكريات رمضان تتحول إلى أنشودة حب لمصر والمصريين كما هو الحال في كتابة أديب سوداني الأصل عاش تكوينه في مصر ويقيم منذ سنوات في النمسا كأكاديمي ومثقف بارز وهو طارق الطيب الذي كتب عن "رمضان في فيينا" فإذا به في الواقع يكتب عن "رمضان في القاهرة"!. وإذا بطارق الطيب يقول: "من أكثر الأحاسيس التي تذكرني بمعنى كلمة وطن الإحساس الوجداني الطبيعي التراكمي لشهر رمضان في القاهرة وسط الأهل والأصدقاء قبل أكثر من ربع قرن". وها هو"السوداني - المصري، أو المصري - السوداني" طارق الطيب يقول: "الأصوات المرتبطة بشهر رمضان لا تنسى: صوت الشيخ محمد رفعت وصوت النقشبندي ونصر الدين طوبار وعبد المطلب في "أهلا رمضان" ويتساءل: "فهل للجيل الجديد أصواته الرمضانية التي يحتفظ بها وهل ستكون له حاسة صوتية أخرى تستند إليها ذاكرته حين يسير به الزمان في الزمان أو حين ينقله المكان إلى مكان"؟! ولئن كان طارق الطيب قد رسم لوحة قلمية بديعة لرمضان في القاهرة فقد تناول في الواقع خصائص "رمضان المصري" مستعيدا صوت المسحراتي الباقي في وجدانه حتى الآن والفوانيس الملونة التي حملها وهو طفل صغير وزينة رمضان في الحارات التي كانت تربط شرفات الناس بالألوان والبهجة ليخلص إلى أن "أجواء رمضان في مصر كانت أجواء ثرية ولها مذاق لا يبارى". و"رمضان المصري" يعني "الفانوس أبو شمعة المصنوع من الصفيح" والقص الجميل وأروع السير سواء في المدن أو أعماق القرى البعيدة في الصعيد والدلتا حيث كان الغناء يتصاعد في الأيام الخوالي: "افطر يا صايم على الكعك العايم" أي الكعك "العائم في السمن"!. وهكذا يحق القول بأن لرمضان المصري خصوصية وأي خصوصية! إنها الخصوصية المصرية المعبرة عن عبقرية الهوية والطقوس الاحتفالية للمصريين وهم في الحقيقة يحتفلون بالحياة بقدر ما يؤمنون بحتمية الرحيل عن الحياة الدنيا والبعث ويوم الحساب. وعلى إيقاعات الفرحة المصرية بالشهر الكريم تكتسب كل أوجه الحياة اليومية في أرض الكنانة ذائقتها الرمضانية بما في ذلك وسائل النقل العام مثل مترو الأنفاق الذي يعمل يوميا من 5:30 صباحا حتى الثانية من صباح اليوم التالي. ولئن اعتبر الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة شهر رمضان فرصة للتأمل والاقتراب من الذات والسفر في أعماق النفس منوها بأن "التأمل من أرقى صفات البشر" فإن تأمل الذكريات الرمضانية يفضي لإدراك معنى وخصوصية "رمضان المصري" حيث الفرحة والبهجة والانتصار للحياة بروح المؤمن والمتطلع دوما لرحمة الله. وكان مفتي الجمهورية الدكتور شوقي علام قد صرح بأن دار الإفتاء تخصص خطا تليفونيا ساخنا لفتاوى الصيام يعمل يوميا للرد على أسئلة المستفتين في كل مكان بعشر لغات وكذلك من خلال صفحة الدار الرسمية على موقع "فيسبوك" للتواصل الاجتماعي والتي تحظى بمتابعة اكثر من 7 ملايين متابع. ولعل حقيقة الإسلام كدين للرحمة والتسامح تتجلى في الحياة المصرية وتراحم المصريين وخاصة خلال شهر رمضان، فيما قد يعقد البعض مقارنات بين الماضي والحاضر ضمن استدعاء ما يعرف "بذكريات الزمن الجميل" عندما كانت الحياة اكثر بساطة وأكثر نزوعا نحو "الدفء الأسري". وللكاتب الراحل جمال الغيطاني الذي قضى في 18 أكتوبر عام 2015 تأملات رمضانية خلابة من بينها طرح كتبه الغيطاني بعنوان: "متتاليات رمضانية" يستدعي فيه ذكرياته عن الشهر الكريم ويقول: "في طفولتي والرحلة لازالت في بدايتها كنت انتظر قدوم أول أيامه كما انتظر حلول ضيف عزيز يصحب معه كل جميلة". وربما لم يكن جمال الغيطاني وحده في طفولته هو الذي تصور رمضان "شيخا مهيبا كل ما يمت إليه أبيض" ولعل البعض أيضا استمروا مثل هذا الكاتب الراحل العظيم "دون أن يبدلوا الهيئة الآدمية التي تصور الشهر الكريم كشيخ طيب الملامح أبيض الثياب ويثير البهجة في نفوس الجميع". وفيما كان يسكن أيام طفولته في حارة عتيقة من حارات القاهرة القديمة، فإن أول شعور كان يراود جمال الغيطاني مع حلول شهر رمضان هو ذلك "الشعور العميق بالاطمئنان حيث تحبس العفاريت وإمكانية اللعب والمرح إلى ساعة متأخرة من الليل". ويستدعي "الحاضر الغائب جمال الغيطاني" حتى "الذكريات الغذائية الرمضانية" مثل "الزبادي الذي يعد من لوازم السحور وكان يباع في أوان صغيرة من الفخار تسمى بالسلطانية ومذاقها بالتأكيد مختلف عن الزبادي المعبأ الآن في ورق مقوى وينتج بكميات كبيرة" أما الحلوى فتتحول من طبق استثنائي في الأيام العادية إلى ثابت من الثوابت الرمضانية سواء كانت "كنافة أو قطايف". وبطابع الحال، يلح "المسحراتي" على ذاكرة "جمال الغيطاني" شأنه شأن كل المصريين وهو يمضي بالنداء المنغم: "اصحى يانايم.. قوم وحد الدايم" وهو نداء له سحره عند الأطفال على وجه الخصوص والذين تغمرهم السعادة عندما ينادي المسحراتي في طوافه الليلي الرمضاني بأسمائهم ناهيك عن "فانوس رمضان" الذي يعد "ظاهرة قاهرية قديمة وربما يعود عصره إلى العهد الفاطمي"، كما يقول حسن عبدالوهاب في مؤلف صغير طريف عن "رمضان المصري". وإذا كان لشهر رمضان تأثيره الكبير على طفولة وتشكيل الكثير من المثقفين المصريين والعرب فالحقيقة أن الذكريات الرمضانية جزء أصيل من الثقافة المصرية.. فرمضان المصري لدى أجيال وأجيال يعني الشيخ محمد رفعت بقراءته القرآنية التي تنعش أوتار القلوب وتواشيح النقشبندي والفشني وفوازير آمال فهمي وصلاح جاهين وألف ليلة وليلة لطاهر أبو فاشا. وواقع الحال أن العشق المصري للشهر الفضيل يكشف عن حقيقة الروح الإيمانية المصرية حيث "شهر رمضان هو الوقت المتمنى للمصريين من حساب الزمن كل عام".. إنهم المصريون في حضرة الضياء الرمضاني.. هنا بأرض الكنانة: البشر والحجر والشجر والثمر في حضرة الضياء الرمضاني.. هنا في حاضرة الكون الرمضاني!.