فيما يدخل شهر رمضان الفضيل ثلثه الثاني فإن هذا الشهر الفضيل يشكل موئلا لذكريات وطرائف الكثير من المثقفين المصريين والعرب كما أن تأمل الذكريات الرمضانية يفضي لادراك معنى وخصوصية "رمضان المصري" حيث الفرحة والبهجة والانتصار للحياة بروح المؤمن والمتطلع دوما لرحمة الله. ولعل حقيقة الإسلام كدين للرحمة والتسامح تتجلى في الحياة المصرية وتراحم المصريين وخاصة خلال شهر رمضان فيما قد يعقد البعض مقارنات بين الماضي والحاضر ضمن استدعاء مايعرف "بذكريات الزمن الجميل" عندما كانت الحياة أكثر بساطة وأكثر نزوعا نحو "الدفء الأسري". وللكاتب الراحل جمال الغيطاني تآملات رمضانية خلابة من بينها طرح كتبه بعنوان:"متتاليات رمضانية" يستدعي فيه ذكرياته عن الشهر الكريم ويقول:"في طفولتي والرحلة لاتزال في بدايتها كنت انتظر قدوم أول ايامه كما انتظر حلول ضيف عزيز يصحب معه كل جميله". وربما لم يكن جمال الغيطاني وحده في طفولته هو الذي تصور رمضان "شيخا مهيبا كل مايمت اليه أبيض" ولعل البعض أيضا استمروا مثل هذا الكاتب الراحل العظيم "دون أن يبدلوا الهيئة الآدمية التي تصور الشهر الكريم كشيخ طيب الملامح أبيض الثياب ويثير البهجة في نفوس الجميع". وفيما كان يسكن ايام طفولته في حارة عتيقة من حارات القاهرة القديمة فان أول شعور كان يراود جمال الغيطاني مع حلول شهر رمضان هو ذلك "الشعور العميق بالاطمئنان حيث تحبس العفاريت وامكانية اللعب والمرح إلى ساعة متأخرة من الليل". ويستدعي الغيطاني حتى "الذكريات الغذائية الرمضانية" مثل "الزبادي الذي يعد من لوازم السحور وكان يباع في آوان صغيرة من الفخار تسمى بالسلطانية ومذاقها بالتأكيد مختلف عن الزبادي المعبأ الآن في ورق مقوى وينتج بكميات كبيرة" اما الحلوى فتتحول من طبق استثنائي في الأيام العادية إلى ثابت من الثوابت الرمضانية سواء كانت "كنافة أو قطايف". وفيما تحل الذكرى الثالثة والأربعين لحرب العاشر من رمضان فان جمال الغيطاني الذي عمل كمراسل حربي أثناء تلك الحرب التحريرية المجيدة استدعى ضمن ذكرياته الرمضانية اصرار المقاتلين المصريين على القتال وهم صائمون رغم صدور فتوى بالافطار كما استدعى "الوجبة الرمضانية الجاهزة" التي وفرتها شركات القطاع العام حينئذ للمقاتلين في الشهر الفضيل وكانت تحوي كل المكونات الغذائية الرمضانية التي يعشقها المصريون بما في ذلك "المخلل". فهذا الشهر الفضيل يستدعي دوما بكل الفخر يوم العبور المصري في العاشر من رمضان 1973 وملامح الحياة في مصر التي عبرت الهزيمة لتحرر ارضها المحتلة في سيناء وتواصل الانتصار لقيم الحق والخير والجمال. وبطابع الحال يلح "المسحراتي" على ذاكرة "الغائب الحاضر جمال الغيطاني" شأنه شأن كل المصريين وهو يمضي بالنداء المنغم:"اصحى يانايم..قوم وحد الدايم" وهو نداء له سحره عند الأطفال على وجه الخصوص والذين تغمرهم السعادة عندما ينادي المسحراتي في طوافه الليلي الرمضاني باسمائهم ناهيك عن "فانوس رمضان" الذي يعد "ظاهرة قاهرية قديمة وربما يعود عصره إلى العهد الفاطمي" كما يقول حسن عبد الوهاب في مؤلف صغير طريف عن "رمضان المصري". وقد يكون شهر رمضان الكريم محفزا لاستدعاء الطرائف كما فعل الكاتب العراقي الأصل خالد القشطيني في جريدة الشرق الأوسط اللندنية فراح يكتب بعذوبة عن الشاعر حسين شفيق المصري "وشعره الحلمنتيشي" اقدامه في هذا الشعر على معارضة المعلقات السبع بقصائد سماها "المشعلقات" !. ولأن الجوع والعطش في الصيف القائظ أمر قد يثير اعصاب البعض ويتسبب احيانا في مشاحنات فقد اوحى ذلك للشاعر الحلمنتيشي حسين شفيق المصري بكتابة "مشعلقة" ينافس فيها قصيدة ابي العتاهية الشهيرة بمطلعها:"آلا مالسيدتي مالها..أدلا فأحمل دلالها". وهكذا كتب حسين شفيق حسين المصري في معارضته لقصيدة ابي العتاهية:"ألا مالسيدتي مالها ؟..أدلا فأحمل ادلالها..اظن الولية زعلانة وماكنت اقصد ازعالها..أتى رمضان فقالت هاتولي زكيبة نقل فجبنا لها..ومن قمر الدين جبنا ثلاث لفائف تتعب شيالها". ويمضي خالد القشطيني في استدعاء الطرائف الرمضانية لينقل عن حسين شفيق المصري قوله في هذه "القصيدة الحلمنتيشية":"وجبت صفيحة سمن وجبت حوائج ماغيرها طالها..فقل لي على ايه بنت الذين بتشكي إلى اهلها حالها" ؟!. ولئن كان لشهر رمضان تأثيره الكبير على طفولة وتشكيل الكثير من المثقفين المصريين والعرب فالحقيقة أن الذكريات الرمضانية جزء اصيل من الثقافة المصرية.. فرمضان المصري لدى اجيال واجيال يعني الشيخ محمد رفعت بقراءته القرآنية التي تنعش اوتار القلوب وتواشيح النقشبندي والفشني وفوازير آمال فهمي وصلاح جاهين والف ليلة وليلة لطاهر أبو فاشا. وقد يتجلى أكثر وأكثر معنى "رمضان المصري" وروائح البهجة مع تأمل عنوان كتاب لأحد الآباء الثقافيين المصريين والعرب وهو جلال الدين السيوطي صاحب "اللطائف في الكنافة والقطائف" وهو كتاب عن الحلويات الرمضانية التي يعشقها المصريون بقدر مايشكل إشارة لمدى ثراء الذاكرة الثقافية الرمضانية المصرية. وجلال الدين السيوطي الذي ينتسب لمدينة أسيوط ولد عام 1445 وقضي عام 1505 وهو صاحب مؤلفات هامة في الفقه والتفسير والتاريخ وقام برحلات ثقافية عديدة في مشرق الأمة ومغربها حتى بات من أبرز مثقفي النصف الثاني من التاسع القرن الهجري وله مقام يحمل اسمه في أسيوط. ولن يكون من الغريب أن تتحول ذكريات رمضان إلى انشودة حب لمصر والمصريين كما هو الحال في كتابة اديب سوداني الأصل عاش تكوينه في مصر ويقيم منذ سنوات في النمسا كأكاديمي ومثقف بارز وهو طارق الطيب الذي كتب عن "رمضان في فيينا" فاذا به في الواقع يكتب عن "رمضان في القاهرة"!. واذا بطارق الطيب يقول في طرح بمجلة العربي الثقافية الكويتية:"من أكثر الأحاسيس التي تذكرني بمعنى كلمة وطن الاحساس الوجداني الطبيعي التراكمي لشهر رمضان في القاهرة وسط الأهل والأصدقاء قبل أكثر من ربع قرن وعلى مدى ربع قرن". ولئن كان طارق الطيب قد رسم لوحة قلمية بديعة لرمضان في القاهرة فقد تناول في الواقع خصائص "رمضان المصري" مستعيدا صوت المسحراتي الباقي في وجدانه حتى الآن والفوانيس الملونة التي حملها وهو طفل صغير وزينة رمضان في الحارات التي كانت تربط شرفات الناس بالألوان والبهجة ليخلص إلى أن "اجواء رمضان في مصر كانت اجواء ثرية ولها مذاق لايبارى". و"رمضان المصري" يعني "الفانوس أبو شمعة المصنوع من الصفيح" والقص الجميل واروع السير سواء في المدن أو اعماق القرى البعيدة في الصعيد والدلتا حيث كان الغناء يتصاعد في الأيام الخوالي:"افطر ياصايم على الكعك العايم" أي الكعك "العائم في السمن" !. وكعك العيد الذي يخبز في رمضان عادة مصرية خالصة ترجع لعصر الدولة الطولونية والفاطميين الذين خصصوا لصناعته وتوزيعه إدارة رسمية في دولتهم بمصر حملت اسم "دار الفطرة" كما تقول كتب التاريخ وكما يشهد متحف الفن الإسلامي بالقاهرة الذي يحوي قوالب للكعك نقشت عليها عبارات دالة مثل:"كل واشكر مولاك" و"كل هنيئا واشكر". و"النكهة الرمضانية" مصرية غالبا حتى لكثير من غير المصريين و"رمضان المصري" يعادل حي الحسين الذي لايكاد يكتمل الشهر الفضيل بالنسبة لكثير من المصريين والعرب والأجانب دون قضاء ليلة في رحاب وعبق هذا الحي القاهري مابين المسجد الحسيني والجامع الأزهر وخان الخليلي. فمازال حي الحسين علامة رمضانية مصرية بامتياز بحلقات الانشاد الديني والمقاهي ومشغولات الحرفيين المهرة فيما امسى شارع المعز لدين الله تحفة للناظرين وبهجة للساهرين بين جنباته التي تعود للعصر الفاطمي والبيوت والأسبلة والوكالات التجارية العتيقة. لرمضان المصري خصوصية واي خصوصية !..انها الخصوصية المصرية المعبرة عن عبقرية الهوية والطقوس الاحتفالية للمصريين وهم في الحقيقة يحتفلون بالحياة بقدر مايؤمنون بحتمية الموت والبعث ويوم الحساب. والفارق كبير، كبير بين هذه النظرة الايمانية المصرية للوجود والحياة والموت وبين منظور الإرهاب الذي يريد البعض فرضه على مصر والمصريين !. ورغم توحش الإرهاب العميل وضرباته الغادرة التي ادمت القلوب المؤمنة في مشرق الأمة ومغربها فان ثقافة الوسطية المصرية التي تتجلى في شهر رمضان الفضيل تبقى في طليعة قوى المقاومة لهذا الإرهاب الذي يكشر عن انيابه. وهذه الثقافة بأبعادها الايمانية وذائقتها الجمالية تتبدى في الابداع المصري في فنون التلاوة القرآنية والتفاف المصريين للانصات لأصوات جميلة في عالم التلاوة وفي مقدمة هذه الأصوات الخالدة محمد رفعت وعبد الباسط عبد الصمد ومصطفى إسماعيل. وهاهو طارق الطيب يقول:"الأصوات المرتبطة بشهر رمضان لاتنسى: صوت الشيخ محمد رفعت وصوت النقشبندي ونصر الدين طوبار وعبد المطلب في "اهلا رمضان" ويتساءل:"فهل للجيل الجديد اصواته الرمضانية التي يحتفظ بها وهل ستكون له حاسة صوتية أخرى تستند اليها ذاكرته حين يسير به الزمان في الزمان أو حين ينقله المكان إلى مكان"؟!. وواقع الحال أن "رمضان المصري" أو هذه الظاهرة المصرية الأصيلة تكشف عن حقيقة الروح المصرية العاشقة للجمال كمنحة ربانية وهبها الخالق للبشر وتطلع المصريين دوما للسماء طالبين عون ورحمة الواحد الأحد واحتفالهم في الوقت ذاته بالحياة والسعي لمنحها معان تتسق مع المواريث الحضارية المتراكمة على ضفاف النيل. ولئن حق القول بأن هناك اياد خفية تعبث في الخفاء وقوى خارجية تشجع الاقتتال بين المسلمين والصراعات المذهبية والطائفية فان هذا الايمان المصري يشكل أكبر واعظم قوة مقاومة لأعداء الأمة بقدر ما يقدم الاجابة على اسئلة الوقت. فلنتأمل الرحلة الايمانية للمصري عبر الزمان وهذه الأنماط من التدين المتسامح للمصري الذي لايملك سوى ايمانه بالله في عمق اعماقه لأنه وارث تاريخا مديدا من التجارب الايمانية الفردية والجماعية ولنتأمل هذا الايمان المصري المنتصر للحياة والذي لايعرف التجهم رغم المحن والاحن. ولأن المصري مؤمن بالفطرة فهو يرفض اليأس ولايتخلى ابدا عن يقينه في رحمة الله التي وسعت كل شييء..أنه المصري الذي يحمل البهجة وعشق الجمال لأن الله جميل يحب الجمال كما يردد المصريون دوما. كل ذلك يدركه اعداء مصر والمصريين ومن ثم فهم يحاولون ضرب روح مصر بجلب انماط مغايرة من تعبيرات وسلوك مضاد للايمان المصري !..أنه "التدين المغشوش الذي يحاول إقامة خصومة وقطيعة بين المواريث الايمانية للمصريين وتراثهم الثقافي وسلوكهم". تدين مصطنع يصادم جوهر الدين ومقاصده ويدعو للموت ويعادي الحياة والبسمة والبهجة البريئة والروح المصرية الساخرة التي تهد جبال المصاعب وتتجاوز اخاديد الهموم !. انها روح مصر المؤمنة والطيبة التي منحت مذاقا خاصا حتى لشهر رمضان الذي يجمع القاصي والداني على أن مذاقه المبهج لايتجلي في بلد مثل مصر..حتى التلاوة المصرية للذكر الحكيم لها طابعها الجمالي البالغ العذوبة. والرئيس الراحل انور السادات كان في الواقع صاحب "الخلطة السحرية" لدعاء أو اغنية دينية شهيرة اقترنت بشهر رمضان وهى اغنية "مولاى" فهوالذي اقترح فكرة التعاون بين الموسيقار الراحل بليغ حمدي والمنشد العظيم سيد النقشبندي. كانت "مولاى" واحدة من اربعة موشحات أو ادعية دينية شارك فيها الثلاثى بليغ حمدى كملحن وسيد النقشبندى كمنشد وعبد الفتاح مصطفى كشاعر وحملت الموشحات الثلاثة الاخرى عناوين:"اقول امتى..ويارب..ولاالله الا الله".. لكن انشودة "مولاى" هي التي استأثرت بالقدر الأكبر من الاعجاب وظلت تزداد سحرا بمرور الزمن وتفيض العيون دمعا كلما انساب صوت الشيخ سيد النقشبندى بكلمات عبد الفتاح مصطفى التي لحنها بليغ حمدى. ووصف هذا التعاون بين الملحن والمنشد والشاعر بأنه "خلطة سحرية كان يقف خلفها الرئيس الراحل انور السادات..ولم لا ؟!..الم يكن رئيسا لشعب يعشق كل ماهو جميل ويمنح قيمة مضافة لكل شييء ؟!. من الذي يمتلك فطرة نقية وذائقة سليمة ولايعشق اصوات مقرئين مصريين مثل محمد رفعت ومصطفى إسماعيل والشعشاعي والحصري وعبد الباسط والمنشاوي والبنا..اصوات كأنها الحان من السماء لأهل الأرض" وخيوط من وجد وبهجة تحمل رسالة السماء للأرض وصفحة خالدة في قصة "رمضان المصري". انها قصة شعب مؤمن ومنتصر للحياة. تحية للمصريين وهم في رباط إلى يوم الدين يتحركون بنور الايمان وثقافتهم الوسطية الأصيلة لحماية احلام المستقبل والتصدي للشطط والانحراف وكشف هؤلاء الذين يسعون في الأرض فسادا وخسرانا للدنيا والدين..تحية لهم في ختام الشهر الفضيل وهم ينتصرون للحياة ويدافعون عن الدين العظيم ويكتبون صفحة جديدة في قصة "رمضان المصري".