نفحات «العميد» الليلية تنعش «جيب» مسحراتى القاهرة الجديدة حتى فى أكثر الأحياء رقياً نجد المسحراتى، كطقس رمضانى فلكلورى محبب إلى النفس، ومن منا ينسى أشعار فؤاد حداد وغناء كروان مصر سيد مكاوى «إصحى يانايم وحد الدايم.. رمضاااان كريم».. كان مكاوى يشدو بروح مصرية عذبة خالصة، وبصوت يشيع البهجة الحقيقية، فى عصر كل الناس يسعدون فيه بالأشياء البسيطة، ويبحثون عن البهجة ما وسعهم البحث. كانت الأحاسيس صادقة، والمشاعر مرهفة، يحب الناس بعضهم بعضاً، ويجود كل جار - بما رزقه الله - على جاره، يحاول التودد إليه بابتسامة صافية نابعة من القلب، فى هذا الزمن الجميل كانوا يلتفون حول مائدة واحدة، كل أسرة تأتى بطعام لتتشكل لوحة رائعة من مأكولات متعددة المذاق، ومن كان يستيقظ وقت السحور كان يطرق باب جيرانه ليتسحروا، ويقتسموا أرغفتهم بالمحبة. ولدت ونشأت بحى الجمالية العريق بالقاهرة، الذى شهد مولد أبى وجدى، توارثنا القيم وحب الآخرين، كان المسحراتى ينادى فى الحوارى والأزقة بأسماء الأولاد، والآباء، «ياحاج محمد ياأبو إسماعيل قوم اتسحر ووحد الله»، المسحراتى من أهل المنطقة، ويعرف أسماء الجميع، كان ذلك فى بداية ستينيات القرن الماضى، وفى صباح يوم العيد كان المسحراتى يطرق الأبواب برفق، كنا نمنحه جنيها وطبقاً من الكعك، وجيراننا كذلك يفعلون كان الجنيه - آنذاك - يشترى أربعة كيلو جرامات من لحم الضان! وبعد انتقالى للسكن بالقاهرة الجديدة، رأيت الأطفال يلعبون فى الشوارع الفسيحة ذات الحدائق على الجانبين حتى قبل آذان الفجر بنصف ساعة، الجميع مستيقظون، لكن المسحراتى كان يحمل طبلته ويضرب بعصاه رقها، وهالنى جارى عميد الشرطة، وهو جار طيب ودود، ينادى المسحراتى: ياعم الحاج.. نادى باسم ابنتىّ شيماء وإلهام، وسرعان ما جاءت زوجته وأنزلت «السبت» به مبلغ نقدى، ما إن وضعه المسحراتى فى جيبه، حتى ارتجل أغنية خاصة للبنتين، كان يرددها طوال الشهر، وفى كل مرة ينال نفحات العميد. كنا نقوم بتعليق حبال من الأوراق الملونة فى الحى العريق، أما فى القاهرة الجديدة فقد يعلق هذا أو ذاك فانوساً فى شرفته، أو حبل نور من المصابيح الصغيرة «الصينى» التى «تزغلل العيون»، لكن أين البهجة والدفء الإنسانى بين الجيران؟ غير موجود على الإطلاق، مدن بلا روح! وبالعودة إلى التاريخ نجد أن بلال بن رباح «أول مؤذن فى الإسلام» وابن أم كلثوم، يقومان بمهمة إيقاظ المسلمين لتناول السحور، فبلال يؤذن فيتناول المسلمون سحورهم، والثانى ينادى بعد الأذان بساعة فيمتنع المسلمون عن الطعام والشراب، وكان عتبة ابن اسحاق أول من قام بمهمة «المسحراتى» فى مصر، عام 822ه، فقد كان ينادى «عباد الله تسحروا» وهو سائر على قدميه من مدينة العسكر «بالفسطاط» إلى مسجد عمرو بن العاص، ثم نالت مهنة المسحراتى احتراماً وتقديراً، لعظم ثوابها وأجرها، فقام بها الوالى بشخصه، وفيما بعد تم استخدام «الطبلة» فى إيقاظ المسلمين لتناول السحور. فى العصر العباسى كان المسحراتى ينشد شعراً بصوت جهورى طوال ليالى رمضان، فيستيقظ المسلمون للتسحر، ثم أخذ المسحراتى يجوب شوارع القاهرة القديمة وحاراتها مصطحباً طفله الذى يحمل له المصباح، ليدق المسحراتى على طبلته بعصا خشبية، منادياً الناس بأسمائهم، داعياً لهم بالخير والبركة، وكان النساء يضعن قطع النقود المعدنية فى ورقة كبيرة يشعلن طرفها، ويليقين بها إلى المسحراتى ليستدل بالشعلة الصغيرة على مكان النقود. مهنة المسحراتى كادت تختفى تماماً فى العصر المملوكى، ولاحظ ذلك الظاهر بيبرس، فأعاد للمسحراتية رونقهم، وقام بتعيين أشخاص من أصحاب الصوت الحسن لقيام بهذه المهمة، وكان الأطفال يستيقظون ويسيرون فى موكب المسحراتى، يغنون وراءه أناشيده الدينية، وكان الأطفال يمنحون المسحراتى قطعاً نقدية. فى ريف مصر كان العمدة يتولى مهمة المسحراتى ، وأحياناً كان يعهد إلى رجاله بالطواف فى شوارع القرية لإيقاظ الأهالى طوال شهر رمضان، وفى يوم العيد كان المسحراتى يطوف بالبيوت ليحصل على أجرة السحور، التى كانت بعض المال أو الكعك أو لحوم العيد، وكثيراً ما تكون «كيلة قمح». وبعد دخول الكهرباء، تقلص دور المسحراتى لسهر الناس فى ليالى رمضان بالمقاهى أو أمام التليفزيون فى البيوت، ولكى يكسب المسحراتى رزقه كان يدون فى مفكرة صغيرة أسماء أهالى الشارع ليقوم بالنداء عليهم كطقس فلكلورى، دون أن تهزمه وسائل الإعلام والفضائيات التى تبث إرسالها 42 ساعة يومياً. وإذا افترضنا وجود 5 مليون أسرة، تدفع كل منها عشرين جنيهاً - فى المتوسط - أجراً للمسحراتى، فتكون الحصيلة 001 مليون جنيه يدفعها الشعب للمسحراتى، حتى وهم مستيقظون، فضلاً عن الهدايا العينية كأطباق الكعك والبسكوت والملابس واللحوم.