الحديث عن تواصل التاريخ المصرى حديث سياسة وليس حديث تاريخ. وهو حديث عقيدة وطنية ضرورية ومناعة أساسية، وليس ترفاً فكرياً. يتداول الناس أن مصر قد مرت بثلاث مراحل فى تاريخها: هى الفرعونية والقبطية والإسلامية. فهم يقولون تحدثت مصر الهيروغليفية ثم القبطية ثم العربية. ولكن الحقيقة هى أن الأولى هى مجرد خط وليست لغة, وأن الثانية كانت تطوراً لغويا شوهه الاختلاط باليونانية، فظلت أسيرة دور العبادة. والحقيقة أيضاً أن اللغة المصرية القديمة كانت تحمل سمات اللغات السامية، من المثنى وتاء التأنيث و(واو الجماعة) و(واو القسم)، ثم كتابة الديموطيقية من اليمين إلى اليسار، ثم المفردات التى تظهر فى لغة مصر القديمة فتنتقل منها إلى العربية. فالعربية هى لغة حديثة استعارت جزءاً لا يستهان به من كينونتها من مصر القديمة. فاللغة العربية التى نتحدثها اليوم لغة حديثة إذ أنها ظهرت بعد أكثر من ألفى عام بعد استقرار حضارة مصر القديمة، وتبلور الفلسفة المصرية فى تفسير الكون. وإنه لمن الغرائب أن يعتبر أى دارس للعلم أن هناك غرابة فى أن يتساءل أحد عن العلاقة بين لغة مصر القديمة ولغات الشرق الأدنى القديم، أو عن تأثير الناتج الفلسفى الهائل للحضارة المصرية القديمة على كل الإرث الدينى الذى تلاها أو على كل الأعمال الفلسفية التى عزيت مثلاً للحضارة اليونانية. فآثار مصر القديمة تتناثر فى بلاد الشرق كلها، من سورياوالعراق للجزيرة العربية لشمال إفريقيا وحتى قلب إفريقيا لآلاف السنين. وليس على المهتم إلا أن يتساءل عن إخناتون ورسائل تل العمارنة. فتلك كانت مكتوبة بخط بلاد النهرين الأكادى متواصلة مع كنعان أو عن الهكسوس أو الحيثيين ووجوهم فى مصر لمئات السنين، فمن هم؟ وكيف جاءوا إلى وادى النيل؟ وكيف تأثر المصريون بهم؟ وكيف أثّر المصريون فيهم؟ ثم ولنبحث عن التداخل المصرى مع ساحل الشام، حيث أنه من المؤكد إن أقدم الآثار فى الساحل الشامى واللبنانى هى الآثار المصرية. والاحتكاك المصرى بالشرق قضية مفروغ منها تماماً، ولكن البحث عما هو أعمق من مجرد وجود الآثار والحملات العسكرية هو ما هو غائب وغير مدرك ومرفوض ومنكر لأسباب سياسية. البحث عن تداخل (منطوق) لغة و(عقائد) قدماء المصريين والشرق قضية كبيرة جداً، وتستحق البحث الجاد بباحثين من أبناء المنطقة وجزء من تراثها الفكرى والفلسفي، بل وربما تكون هى الطريق الوحيد لعلمانية شرقية حقة. فهل يحق لنا التساؤل هل الرموز الغريبة لآلهة قدماء المصريين هى رموز لملائكة وليست رموزاً لآلهة مختلفة؟ هناك من أفرد كتاباً لهذا الموضوع وهو الدكتور نديم عبد الشافى السيار فى عمله الرائد (المصريون القدماء أول الحنفاء) ففى العمل الكبير يتعقب الكاتب والباحث الرائد قناعات قدماء المصريين عن الصلاة والصوم والحج وعن كيف وصلت أفكارهم للصابئة فى العراق. بل وإن هذا الطبيب الذى افتتن بتاريخ مصر القديمة قد أصر على العمل كطبيب فى العراق فى مناطق الصابئة ثم درس اللغة القبطية والمصرية القديمة. ولقد تتبع مئات الكلمات, فمن الكلمات المصرية القديمة التالى من الكلمات (آه، سفر ( بمعنى كتاب)، سور، قبة، طوي، شوية (بمعنى قليل)، حساب، آمن، فج، أذان، صوم، حج، آية .الخ). هل يحق لنا مثلاً أن نتشكك فى أن كل تلك الأسماء ذات الوقع الغريب لقدماء المصريين خطأ؟ بل هل يحق لنا أيضاً أن نتساءل عن شامبليون وهل له أخطاء؟ هذا هو ما فعله مصرى آخر وهو الراحل المهندس أسامة السعداوى الذى اقتنع أن شامبليون الوافد قد ارتكب العديد من الأخطاء. وحتى نوضح كيف فكر الرجل ربما يجدر بنا أن نوضح الأمر بمثال حديث. فلقد سمع أغلبنا عن (زلزال أغادير) و(دولة غانا). حقيقة الأمر أن الأول اسمه السليم والمعروف هو زلزال (أجادير) والثانية اسمها المعروف حول العالم هو جانا. الأمر كله أنه منذ أعوام طويلة قرر شخص ما فى مكان ما أن حرف الجيم (ج) هو معبر فقط عن الجيم الشامية، بديلاً عن (الجيم المصرية) ... ولذلك اعتبروا أن حرف الغين (غ) هذا قد يقوم بالمهمة بدلا عن جيم القاهرة. فصارت (جانا) غانا و(أجادير) أغادير! وتلك هى أحد أكبر الأخطاء الشائعة فى العربية على الإطلاق... أتذكر هذا الأمر عندما أسمع عن تعقد وخلافات القراءة فى اللغة المصرية القديمة. قد يبدو غريبا أن يتصور المرء أن مصر تحتاج إلى بلورة عقيدة وطنية، ولكن ما يدور من جدل فكرى حول القضايا المختلفة يأخذ المجتمع بشكل قاطع لهذا. فهناك حملات دائمة ضد ترابط مصر التاريخى بمن حولها وتصور الأمر كأنما مصر قد تبنت فكراً بدوياً وافداً غريباً جاء عبر الصحراء، وفيها أيضاً من يعلى من تاريخ مصر القديمة كبلورة نقية منفصلة تماما عمن حولها. يدور كل هذا بينما أجيال وراء أجيال تندفع إلى مفرمة الاهتمام بالأمر العام فيتنازعها صراع الأفكار، وهى لا تدرى أن وراء الأفكار وما يبدو كنظريات متكاملة مصالح وتاريخ. وأن أصل الأمر أن فلسفة العلم والتاريخى استنتاجات وتقديرات لبيانات بعينها تتجاوز حدود الباحث المحدود والعالم الفقيه لتخوم المجتمع وتيارات الحياة والسياسة. ما نعرفه عن تاريخ مصر القديم هو نتاج المؤرخين والمفكرين الغربيين فى مرحلة الاستعمار والحداثة وكان هؤلاء فى نهاية الأمر غرباء عن الشرق فقد أفرزوا تقديرات علمية ناتجة من رؤاهم التى فصلت بين مصر ومن حولها. تستطيع مصر أن تقهر صعاباً عدة إذا اقتنع شبابها وشاباتها بحقيقة أنهم هم أنفسهم بحق أحفاد بناة الأهرام وراسمو المثلثات ومكتشفو الرياضيات وأن عقيدتهم وعقائد الشرق لا تحتاج لجماعات سياسية تختطفها فلقد مارسها أجدادهم منذ آلاف السنين وأنها لم تمنعهم من اقتحام العلوم كلها وأنها جزء من مكون ثقافى إنسانى أزلى لم يغب. فالمصريون وقيمهم الفلسفية ومنطوق لغتهم متواصل بقدر ما ولقد أثّر فى كل من أحاط بهم وتفاعل معهم، فالعالم كله يحيا فى ظلال مصر. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي