«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



»شامبليون ومصر «.. عناق أبدي سطّره نقش علي الحجر
نشر في أخبار الأدب يوم 16 - 07 - 2016

كانت الحضارة المصرية القديمة السر الأكبر الذي استعصي علي كثير من العلماء المهتمين بتاريخ مصر القديم علي مر العصور بفضل قدرة هذا السر المتمثل في إنتاج حضاري فريد علي تخطي مصاعب الزمن حافظا لأكبر قدر من عظمته ومجده. فكان السعي الدؤوب لسبر أغوار تلك العقلية المصرية الصانعة لهذا المجد حافزا لكثير من العلماء الطامحين لرسم ملامح تاريخ مصر القديم وتجميع شتات لوحته التي هي أشبه بقطع الفسيفساء المتناثر هنا وهناك لعلها تسطر قراءة جديدة واضحة لإعجاب بمصر بات رمزا للإعجاب والفضول.
دامت محاولات اختراق الزمن وإعادة اكتشاف العقلية المصرية سنوات طوالاً، استجدي فيها العلماء الإجابة من كل حدب وصوب، لكنها ظلت محاولات عقيمة لا طائل من جدواها حتي لان "الحجر" مستجيبا لجهود الفرنسي جان فرانسوا شامبليون لتبدأ عملية فض ما استعصي علي العلماء، وتدب حياة جديدة في تاريخ أمة كاد أن يندثر لولا أن تدخل القدر.
وُلِد شامبليون في الثالث والعشرين من ديسمبر عام 1790 في مقاطعة فيجاك الفرنسية لأب يبيع الكتب في مكان صغير خصصه له عمدة المدينة في ذلك الوقت.
لم يتمكّن شامبليون "الصغير" في ذلك الوقت من الالتحاق بمدارس التعليم النظامي لاضطراب الأحوال في أعقاب الثورة الفرنسية، لذا نراه تلقي دروسا خاصة في اللغتين اللاتينية واليونانية، برع فيهما حتي تقول أساطير إنه وهو في التاسعة من عمره استطاع قراءة نصوص وأشعار ومسرحيات كتبها هوميروس .انتقل شامبليون إلي مدينة جرونوبل للالتحاق بالمدرسة الثانوية حيث كان أخوه الأكبر جاك جو يف يعمل باحثا في معهد البحوث الفرنسي، فأصبح في رعايته - وبدأ الأخ الصغير وهو لا يزال في الثالثة عشرة من عمره الاهتمام باللغات العربية والكلدانية و السريانية والعبرية.
وهناك تواصل مع المسيو جوزيف فورييه الذي شغل منصب سكرتير البعثة العلمية خلال حملة نابليون بونابرت علي مصر، فكان له الفضل الأول في دفع شامبليون نحو طريق دراسة التاريخ، وتاريخ مصر تحديدا، بما وفره له من مساحة اطلاع علي مجموعته الخاصة من مقتنيات أثرية أثارت فضول "الصغير" وإعجابه في ذات الوقت وقادته نحو الوقوع في غرام مصر وثقافتها وحضارتها .بدأ العد التنازلي نحو مجد شامبليون حينما تحرك بونابرت علي رأس "جيش الشرق" في حملته العسكرية عام 1798 والتي ضمت إلي جانب الأسلحة والمدافع عددا كبيرا من العلماء والفنانين، وعلي الرغم من فشل الحملة عسكريا بعد ثلاث سنوات قضتها في البلاد، إلا أنها أثمرت بطريقة غير مباشرة عن مخزون علمي من الوصف الجغرافي والتاريخي والثقافي لمصر وشعبها، ضمن مشروع موسوعي يعرف ب"وصف مصر"، كما كان من أبرز إنجازات حملة بونابرت اكتشاف الضابط بيير فرانسوا بوشار حجر رشيد في التاسع عشر من يوليو عام 1799 .
يعود نقش حجر رشيد إلي عام 196 قبل الميلاد، وهو مرسوم ملكي صدر في مدينة منف تخليدا للحاكم بطليموس الخامس، كتبه كهنة مصر ليقرأه العامة والخاصة والطبقة الحاكمة، لذا جاء نصه مكتوبا بثلاث لغات أو بمعني أدق ثلاث كتابات:الهيروغليفية، اللغة الرسمية في مصر القديمة، والديموطيقية، الكتابة الشعبية في مصر القديمة، إلي جانب اليونانية القديمة، لغة الطبقة الحاكمة.اضطر الفرنسيون بعد فشل حملتهم بعد تحطم أسطولهم البحري علي يد الإنجليز في موقعة أبي قير بقيادة الأدميرال نيلسون، إلي بذل الغث والسمين في سبيل الحفاظ علي حياتهم علي الأقل في مصر كي يعودوا سالمين إلي بلادهم، لذا سلموا الحجر من بين ما سلموه من آثار اكتشفوها للقوات الإنجليزية. لكن الفرنسيين اشترطوا قبل تسليم الحجر عمل نسخ من نقوشه الموجودة عليه مستخدمين الورق المقوي من خلال دهان الحجر بالحبر والضغط علي ظهر الورق لامتصاص الحبر وطبع الأشكال و الحروف.
وبدأ صراع إنجليزي فرنسي من طراز فريد بعد أن أصبح الحجر بحوزة الإنجليز
وضمن مقتنيات المتحف البريطاني، فيما لا يملك الفرنسيون سوي نسخ ورقية من نقوشه، وبلغ التنافس أشده في سباق مع الزمن، لمن سيكون له سبق حل اللغز و فك شفرة الحجر؟
توصل العالم البريطاني توماس يانج إلي أن اللغة المصرية القديمة "الهيروغليفية" تتكون من دلالات صوتية وليست صورا تشكيلية، كما اكتشف أيضا أن أسماء الملوك والحكام تحمل دلالات خاصة تكتب داخل مستطيلات تعرف باسم "الخرطوش الملكي" داخل النصوص المصرية تمييزا لها عن سائر كتابات النص..وعلي الجانب الفرنسي كان المسيو سلفستر دي ساسي أشهر وأول علماء المصريات الفرنسيين الذين اهتموا بمحاولة فك لغز اللغة المصرية القديمة، وكان أستاذا لشامبليون، لكنه لم يستطع فك رموز الحجر وظل بالنسبة له سرا غامضا غير مفهوم علي الإطلاق .
وجاء دور شامبليون فلم يأخذ نظرية يانج علي محمل الجد، بل دأب علي مخالفة كل ما كان يعتقد فيه معاصروه، بما في ذلك أستاذه دي ساسي، فبعد أن أقر الجميع بأن الهيروغليفية عبارة عن صور رمزية تعبر عن أفكار مجردة، لم يتصور أي منهم علي الإطلاق أن تكون اللغة صوتية منطوقة، وهي نظرية آمن بها شامبليون وسار علي خطي إثباتها، بيقين منه أن هذه الكلمات كانت تتردد علي ألسنة المصريين يوما ما، بل كانت جزءا من حياتهم اليومية .
استفاد شامبليون من معرفته باللغة اليونانية القديمة في مقارنة نصوص الحجر الثلاثة، واستطاع بعد عناء كبير أن يصل إلي قراءة واضحة للنص المدون علي الحجر وترجمته وتقديم أول قراءة بنائية وصوتية في ذات الوقت للغة المصرية القديمة، فتكلم المصريون من جديد بعد صمت دام قرونا، وعادت الحياة للغة المصرية القديمة لتشغل موقعا بارزا بين أبرز التخصصات العلمية في الجامعات وأقسام اللغات والتاريخ في شتي أرجاء العالم. التقط شامبليون طرف الخيط من دراسته للغة القبطية، معتبرا إياها لغة المصريين القدماء الدارجة، أو الأكثر قربا منها علي أرجح التقديرات، ونذكر أنه ذات يوم صادف أن وجد كنيسة قبطية في إحدي ضواحي باريس، كنيسة سان روش، استمع فيها لأول مرة في حياته لقداس باللغة القبطية، أذهله الأمر إلي حد أنه شعر كما لو كان يستمع لأصوات المصريين القدماء من خلال تراتيل هذه اللغة، فقرر دراستها. برهن شامبليون في أغسطس عام 1821 علي وجود قرابة لغوية تجمع بين الخطوط المصرية الثلاثة، الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية ، وأكد أمام أكاديمية النقوش و الآداب أن هذه الخطوط خرجت من مشكاة منظومة واحدة بل ومشتقة من بعضها بعضا، الأول خط مقدس والثاني خط عادي مكتوب باليد والثالث والأخير خط شعبي يستخدمه المصريون في حياتهم اليومية .
كتب شامبليون كل ما توصل إليه من نتائج وأرسلها في خطاب شهير معروف باسم "خطاب إلي مسيو داسييه ، أمين أكاديمية العلوم و الفنون في 27 سبتمبر عام 1822، والذي لم يكشف شامبليون في محتواه سوي عن جزء صغير من اكتشافه، نظرا لأنه كان في حاجة إلي إجراء مراجعة لبعض عمله.
لم يصرح شامبليون بمفتاح اكتشافه سوي بعد عامين من خلال دراسة كتبها بعنوان "موجز منظومة اللغة الهيروغليفية عند المصريين القدماء" وضح فيها تلك المنظومة بعبارة قال فيها : "إنها منظومة مركبة، ويشتمل كل نص بل وكل جملة علي كتابة منقوشة تمثل رمزا ونطقا في آن واحد".
بعد ذلك سافر شامبليون إلي إيطاليا 1824 - 1826 لحاجته الماسة إلي التحقق - من صحة نتائجه، فنجده ذهب إلي متحف تورين بإيطاليا الذي يمتلك مجموعة رائعة من الآثار المصرية القديمة التي اشتراها من برناردينو دروفيتي ، قنصل فرنسا في مصر، وبدأ يطالع النصوص وينسخها ويرصد كل جديد فيها مضيفا إياه إلي معجمه الذي شرع في وضعه عن اللغة المصرية القديمة، كما زار منطقة ليفورنو التي تضم مجموعة ضخمة اشتروها من هنري سالت قنصل انجلترا في مصر.
وفي عام 1827 عين شاملبون أمينا عاما للآثار
المصرية بمتحف اللوفر في باريس، الذي افتتح في نوفمبر 1827 باسم متحف شارل الثامن، وفي تلك الأثناء تقدم لعضوية أكاديمية النقوش والآداب سنة 1828 لكنه لم يقبل بها.
كلل شامبليون نجاحاته الكبيرة بعد أن استطاع ترجمة النص المنقوش علي حجر رشيد بالكامل وقام بنشره عام 1828 ، وهو نفس العام الذي تشكلت فيه بعثة - فرنسية توسكانية بموافقة ملكي فرنسا وتوسكانيا (في شمال إيطاليا) و ضمت 12 عضوا علي رأسهم شامبليون متجهين إلي مصر، ومعه الرسام الشاب عاشق مصر نيستور لوت الذي استطاع رسم نحو 500 لوحة بالألوان المائية خلال تلك الرحلة.
وطأت البعثة أرض مصر في 18 أغسطس عام 1828 ، ونزل شامبليون و أعضاء البعثة الإسكندرية، في رحلة دامت نحو عامين حتي عام 1830 لم يرحب المسيو دروفيتي، قنصل فرنسا، في بداية الأمر بمقدم البعثة فكتب إلي باريس مؤكدا تحفظه الشديد علي زيارة شامبليون مبررا ذلك بعدم مناسبة الوقت للحضور ومقابلة محمد علي، والي مصر، وتقديم طلبات له بعد أن شاركت السفن الفرنسية مؤخرا في تحطيم الأسطول التركي المصري في نافارين، لكن خطاب - دروفيتي لم يثمر عن الغاية من كتابته، كما هدد شامبليون بإبلاغ الصحف الأوروبية في حالة رفض منحه التراخيص اللازمة لإتمام عمله .
استقبل محمد علي شامبليون ومنحه فرمانات وأمده بالحراسة اللازمة والتسهيلات التي مكنت للبعثة حرية العمل دون عوائق. وبعد وصوله إلي مصر كتب شامبليون رسالة إلي شقيقه الأكبر يخبره فيها :
"إنني أتحمل درجة حرارة الجو قدر استطاعتي، يبدو أنني قد ولدت في هذا البلد، فالأجانب يرون ملامحي أشبه بملامح رجل قبطي، إن لون شاربي الأسود الذي نما بشدة يسهم بشكل كبير في جعل وجهي أشبه بالوجوه الشرقية، كما اكتسبت عادات وتقاليد البلد فأصبحت أشرب كثيرا من القهوة وأدخن الأرجيلة ثلاث مرات كل يوم".
دامت رحلة شامبليون في مصر تسعة عشر شهرا اكتشف خلالها خمسين موقعا أثريا، وكتب تفاصيل ونتائج رحلته في ستة مجلدات كبيرة تحمل عنوان "آثار مصر و النوبة". كما أثمرت رحلته عن مجموعة من المؤلفات الأخري منها وهي مخطوط "المذكرات التفسيرية" و "مذكرات عن مصر والنوبة" التي سجل فيها مشاهداته اليومية عند زيارته للآثار المصرية القديمة وتعليقاته التفصيلية والنصوص التاريخية خطوة بخطوة خلال إعادة اكتشاف مصر القديمة .
كما كتب إلي المسيو داسيه يقول: "بالحق أبشرك بأنه لا يوجد ما يستدعي تغييره في (رسالة حول الحروف الأبجدية الهيروغليفية) التي وضعناها، إن هذه الأبجدية سليمة، و تنطبق بنجاح علي الآثار المصرية في زمن الرومان كما في زمن البطالمة، ومن المهم للغاية أنها تنطبق أيضا علي الكتابات المنقوشة في جميع معابد وقصور ومقابر العصور الفرعونية".
وعند عودته من صعيد مصر قابل شامبليون محمد علي الذي طلب منه كتابة مذكرة عن تاريخ الآثار المصرية القديمة، فكان من الطبيعي أن يستجيب شامبليون لمطلب الوالي، مغتنما في الوقت عينه فرصة تقديم مذكرة أخري تبرز أمام الوالي قدر ما شاهده من أعمال تخريب وتعامل همجي سمته الجهل مع الآثار المصرية، واقترح شامبليون في مذكرته تنظيم أعمال الحفائر بغية المحافظة علي تراث مصر من التعديات الجائرة.
كما كتب رسالة لأخيه يقول فيها :"لقد جمعت أعمالا تكفيني العمر كله!"
و حصل شامبليون أخيرا، بعد عودته من مصر إلي باريس، علي عضوية أكاديمية النقوش والآداب في مايو سنة 1830 ، كما عين في منصب أستاذ في "الكوليج دي فرانس 1831، و لم يلق سوي محاضرات معدودة في الكرسي الذي أنشئ خصيصا له، إذ سرعان ما اضطرته ظروف مرضه وتدهور حالته الصحية إلي التوقف عن إلقاء محاضراته إلي الأبد.
وعلي صعيد الحياة الشخصية كان قلب شامبليون نقطة ضعفه دائما، وتسجل سيرة حياته أنه أحب أشخاصا لم يخلص أي منهم له، نجده أحب صداقته مع المسيو فورييه ثم كاد أن يفقد تلك الصداقة الحميمة، وأحب فتاة تدعي يولين هزأت منه في بداية مشواره، كما أحب لويز لكنها تزوجت شخصا آخر.
ماذا عن روزين؟ إنه يعتقد أنه يحبها، وفي هذا الصدد يطرح الكاتب والمؤرخ الفرنسي جان لاكوتور في كتابه الأهم بعنوان "شامبليون حياة من نور سؤالا وهو: هل كانت نية شامبليون في الاقتران بروزين نوعا من حب التغلب علي مقاومة شخص غبي بداخله؟
رفض والدها كلود بلان ، تاجر القفازات، مصاهرته وبات يراوغه خمس سنوات وشامبليون يصر علي طلب الزواج من ابنته روزين التي كانت تراسله سرا طوال هذه المدة، في حين رفض أخوه الأكبر جاك جو يف - أيضا تلك المصاهرة.
لم يكترث شامبليون لرفض والدها وفضل عدم الانصياع لتحذيرات أخيه ومرشده الروحي وتزوج روزين بلان في الثالث من ديسمبر عام 1818 في كاتدرائية جرونوبل، وتغيب عن حضور المراسم أخوه جاك جو يف وجميع - أعضاء أسرته في مقاطعة فيجاك.
أنجب من روزين ابنته الوحيدة زوراييدا ، بعد ستة أعوام تقريبا دون إنجاب، وهنا نضع ترجمة عن الأصل الفرنسي لرسالة أوردها لاكوتور في كتابه كتبها شامبليون لصديقته الإيطالية الشاعرة أنجيليكا بالليي ، التي أحبها من طرف واحد، يكشف فيها ويصف لها قدر تعاسته:
"أخطأت في بحثي عن السعادة مثل كثيرين، وعشت حياتي كلها علي أساس اعتقاد راسخ بأن الإنسانة التي سأرتبط بها لن يمكنها أبدا أن تملأ قلبي. غير أني اضطررت إلي ذلك ربما بسبب مراعاتي الزائدة جدا للأصول... فعندما كنت صغيرا جدا في السن وجعلتني العلاقات العائلية أقابل أناييس (كناية عن زوجته روزين) مرات عديدة، كانت وهي في السادسة عشرة من عمرها تتمتع بالمزايا الخارجية وبعقلية مثقفة انفتحت علي العالم بمنتهي البساطة وعدم الثقة بالنفس الناتجة بالطبع عن تربية تلقتها في مؤسسة تكاد تكون رهبانية علي نحو أثار اهتمامي الشديد بها لعدم خبرتها وسذاجة تصرفاتها كما أني أصبحت محور اهتمامها فتعلقت بي بالقدر الذي أتيح لها...."
وتستمر رسالة شامبليون حتي يصل إلي سطور يقول فيها :
"كنت آمل أن يغير غيابي أفكار ونوايا أناييس تجاهي، وأن تتخلي عن مشروع زواج لم يكن هناك ما يفرضه، ولم يكن يبشر بسعادة أي طرف.
وينفي مضمون الرسالة كما هو واضح ما تردد عن كون زوجته لعبت دورا مهما في حياته، بل تؤكد كلماته أنه كان تعيسا غير راض عن ذلك، ملمحا في ذات الوقت إلي حالة من التسرع في اتخاذ قرار الارتباط. لم تكن صحة شامبليون جيدة طوال حياتي، ودار جدل كبير بشأن أسباب وفاته، كان أهمها مرض السل وهشاشة العظام والنقرس، وعلي الرغم من أن المعاصرين يرفضون اعتبار حالات الإغماء التي كانت تنتابه من حين لآخر (لاسيما يوم "وجدتها" المشهود في 14 ديسمبر 1822) تشخيصا إكلينيكيا لمرض السل، فقد كان مريضا بالسكر، فضلا عن أسباب كثيرة دعت إلي الاعتقاد بأن إقامته في مصر وشربه من ماء النيل كانا من الأسباب الرئيسية لتدهور حالته الصحية والتعجيل بوفاته نتيجة إصابته بعدو طفيلية.
راح شامبليون وهو في ريعان شبابه في الرابع من مارس 1832 وهو في الثانية والأربعين من عمره ،ولم يكن قد تمكن من الانتهاء من كتابه عن "قواعد اللغة المصرية القديمة" ولا معجمه الذي كان يعده، لكن شقيقه الأكبر جاك- جوزيف أتمهما و نشرهما بعد رحيل أخيه الأصغر.
استطاع شامبليون خلال حياته القصيرة أن يخلد اسمه بإنجازه العلمي ضمن قائمة تضم علماء عصره بعد أن كشف اسرار وخبايا الحضارة المصرية القديمة التي ازدهرت آلاف السنين ونطقت من جديد علي يده، واضعا خلال اثنين واربعين عاما فقط قضاها في عالم الأحياء بصمة بارزة سار علي دربها العلماء والمهتمون بتاريخ مصر ليبقي اسمه خالدا إلي الأبد يعانق اسم مصر التي شغفته حبا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.