في عام1987 وفي غضون زيارتي الأولي لرومانيا اقترح بعض منظمي رحلتي أن أزور قلعة دراكيولا في بلدة سناجوف علي مقربة من العاصمة بيوخارست. وشخصية دراكيولا جمعت بين وقائع التاريخ, وتجليات الأسطورة, وخيالات الإبداع الشعبي, إذ إنه الأمير فلادتيبيس الذي تصدي بوحشية للاجتياح التركي لأوروبا في القرن الخامس عشر, وشاعت عنه أيضا حكايا مروعة تومئ إلي قتلة ما يقرب من أربعمائة ألف إنسان, في مشاهد أقرب إلي الكوابيس دارت بين رومانيا والمجر, وعشق الرجل القتل إلي درجة دفعته إلي جمع خمسة آلاف فقير وقتلهم من أجل القضاء علي الفقر.!! وقد بلور الكاتب الأيرلندي برام ستوكر في القرن19 شخصية دراكيولا ضمن روايته( الذي لا يموت), ثم شاعت وذاعت بالترافق مع كل ذلك حكايا مصاصي الدماء التي صارت جزءا من تراث الخوف والتخويف شعبيا في كل مكان علي ظهر البسيطة. نهايته.. وافقت علي زيارة قلعة دراكيولا الرابضة وسط دغل من الخضرة الكثيفة, يحوطني إحساس كئيب موحش, ويكتنفها غموض كبير, وجست في أقبيتها, وغرفها, وقاعاتها, وعلي الرغم من إيماني بالعلم الذي ينسخ الخرافة بطبيعته, كنت طوال تجوالي في القلعة أسيرا لشعور بانقباض خانق لا أعرف مصدره. وهذا بالضبط ما استشعرته حين جلست في قاعة مركز إبداع بدار الأوبرا منذ أيام لأشهد عرض( أين أشباحي) بدعوة من مدير المركز الدكتور خالد جلال, إذ اكتست كل الجدران والأرضيات اللون الأسود, وفي خلفيتها رسم لجمجمة كئيبة رسمها الفنان محمود الفرماوي قاصدا إرعاب المتفرجين مع سبق الإصرار والترصد, فضلا عن ونات صوتية مخيفة ظلت تتردد حتي بدأ العرض. ولكن ذلك الإحساس الموحش المتأزم المعتم, والعنكبوتي ما لبث أن تبدد, ليشع مكانه طقس فرح ضاحك مبهج, حين اكتسحت موجات من البنات والأولاد بملابس زاهية الألوان الخشبة الصغيرة للمسرح مقدمين عرضهم الاستعراضي الرائع( أين أشباحي). العمل هو جزء من عروض ستوديو الممثل التي قدمت لنا سابقا نتاج إعداد المبدعين الجدد علي امتداد عشر سنوات, في فنون( الإلقاء) و( الغناء) و(الإخراج) و(الاستعراض).. كما قدمت لنا عروضا شاملة أشهرها( قهوة سادة). ولقد تابعت باهتمام شديد عروض الدفعة الحالية في الغناء( غنا للوطن) وفي الإلقاء( حلو الكلام), وفي خليط من الغناء والإلقاء في( نهج البردة), والإخراج في( عرض خاص), وبهرتني مجموعة الشباب الرائع التي أعدها الدكتور خالد جلال بمجهود كبير, عبر مناهج تولي تدريس كل منها أحد الأساتذة الكبار( عصام السيد في الإخراج وعماد الرشيدي في الغناء ونجاة علي في الإلقاء وضياء شفيق ومحمد مصطفي في الاستعراض وشيرلي شلبي في الإتيكيت). ومن ثم باتت عروض ستوديو الممثل بالنسبة لي واجبا حتمي التلبية في أجندة متابعاتي الفنية والإبداعية. وبناء عليه.. خففت إلي عرض( أين أشباحي) لأجد نفسي أمام لوحات استعراضية مبهرة بينها روابط مسرحية كوميدية أبدعها خالد جلال من أجل مسرحة الشكل الذي يقدم العمل فيه. ويدور العرض حول ثلاثة رجال أمن يذهبون للعمل في قصر احترق عام1740 بكل من فيه, ودارت حوله همسات تؤكد أنه يغص بالعفاريت, وفيه تأتمر عشرات الأشباح الظريفة جدا بأمر صاحب القصر شبيه الصورة النمطية التي تظهر لدراكيولا في الأعمال الفنية. وتتوالي اللوحات التي تستعرض القدرات المدهشة للبنات والأولاد في ذلك الإطار ربع الدرامي.! ولقد شاهدت عشرات العروض الاستعراضية في برودواي بنيويورك, و الوست إند في لندن, متابعا بشغف إعجاز التصميم والأداء الممتزج بالتقنية, وأزعم أنه علي الأقل في مستوي التصميم وإعداد الكادر البشري, فإن المصممين المدربين ضياء شفيق ومحمد مصطفي, والراقصين لم يكونوا أقل دون أي إسراف تعبير أو حماس زائد ممن رأيتهم علي خشبات كوفنت جاردن, وفورتي سكندستريت وغيرها. استخدم مخترعو هذا العرض وسائل الإغرابAloenation وضمنها الأقنعة في تصنيع طقس يبدو غريبا ومثيرا للدهشة يلائم عفرتة العفاريت, إذ تمنعنا عادة مشاهدة ما هو طبيعي عن رؤية حركة الأشباح والإحساس برقصها وتنطيطها في إطارهما الخارق لذلك الطبيعي, ومن ثم كان الالتجاء للتغريب عبر الأقنعة, والمكياج الأقرب إلي السحر وطواطمه, مناسبين جدا لإخراج الجمهور من مربع الاعتياد إلي مربع الدهشة, إذا كيف يمكن أن تواجه عفريتا بمشاعر طبيعية. أو اعتيادية؟! وأذكر في شروح المرحوم الدكتور حسين فوزي للموسيقي السيمفونية في البرنامج الثاني بالإذاعة المصرية( وقتما كانت هناك ثقافة ومثقفون وأناس جادون محترمون ومشروع متماسك لبناء الفرد والبلد) أن تعرض الرجل للسيمفونية الثامنة للموسيقار الألماني لودفيج فان بيتهوفن, قائلا إنها سيمفونية عفريتية, يشعر معها أنه في مواجهة العفريت( بوك) في رائعة شكسبير حلم ليلة صيف, وأنه يشعر أن ذلك العفريت يوشك دائما أثناء إنصاته للسيمفونية الثامنة . أن يفك له رباط حذائه, أو يجذبه من رابطة عنقه! وهكذا بالضبط نقل لنا مخترعو عمل( أين أشباحي) إحساس العفرتة, حين لم يكف الأشباح أو الشبحات عن التنطيط والحركة والشقلبة, واستعراض مروحة واسعة جدا من المهارات الحركية, أدوها في إيقاع مجنون ووفقا لصيغة أسميها:( الأداء الفردي الحر وسط الحركة الجماعية المنظمة) أو ما يشبه الارتجال وسط الانضباط.. فأنت تري كلا من الأشباح يؤدي نسقا حركيا وحده, وفي نفس الوقت فإن الإطار الذي يجمع تلك الأنساق المفردة هو أداء جماعي منظم شديد الانضباط.. بعبارة أخري أكثر فذلكة.. نحن أمام صيغة( التنوع في الوحدة). المدهش أن مصممي العرض لم يتعثرا أبدا في حقيقة أن جميع المؤدين السبعة عشر, لم يك لديهم البتة سوابق خبرة في الرقص الاستعراضي, كما أن ثلاثة منهم مثلا يجاوزون بدنيا ومن حيث الوزن الصلاحية التقليدية لمزاولة الفن الأستعراضي, ومع ذلك نجح المصممان في توظيفهم, واستحضار قدراتهم علي التعبير عوضا عن المهارة الحركية, ليشعروك بأنهم جزء لا يمكن الاستغناء عنه في نسق الحركة, وأن أي واضع للكوريوجرافي( أو تصميم الحركة والرقص) لا يستطيع الاستغناء عن وجود أولئك الثلاثة بالذات, وأن رشاقة الأداء ترتبط أساسا بإشاعة روح والإيحاء بشعور, وليس بالتنفيذ الميكانيكي للحركة فحسب. وفي إطار حديثي عن العرض الرائع( أين أشباحي) أود أن أخالف ما درج عليه بعض النقاد من تفرقة متشددة بين( الباليه/ الباليه مودرنيزيه/ الاستعراض) وبين فن التمثيل الصامت البانتوميم, علي أساس أن الرقص والاستعراض تصاحبهما موسيقي فيما لا يحدث ذلك في التمثيل الصامت. في الحقيقة.. لا أحتفل كثيرا بتلك التفرقات المدرسية, لأن فن التعبير صار يخلط ما بين وسائط الأداء المختلفة, علي نحو لا يظهر فيه نقاء العنصر التعبيري علي ذلك النحو الذي يسمح بوضع خطوط فاصلة قاطعة بين شكل وآخر.. وعلي سبيل المثال فإن التعبيرات الصامتة لملامح الأشباح جاءت بالترافق مع الأداء الحركي الاستعراضي الراقص, لا بل أدت إحدي الشبحات مشهدا تمثيليا مع حراس الأمن وهكذا. يرجع مرجوعنا لتلك اللوحات الاستعراضية التي خرجت علينا فيها عشرات الأشباح من حوائط المسرح السوداء, أو أصدرت أصواتا مفردة أو جماعية مؤتلفة علي نحو بارع, فأقول إننا بصدد عمل غير مسبوق في المسرح المصري يمكن البناء عليه لنري عملا مسرحيا استعراضيا وغنائيا علي مستوي عالمي, وهو ما طال انتظارنا له ومطالباتنا به. وربما توجب في النهاية أن أسطر تحية كبيرة لشباب هذه الدفعة من ستوديو الممثل: صاحب القصر: منصور أمين حراس الأمن: محمد أسامة علي ربيع كريم عفيفي. الأشباح: سارة سلامة رشا مجدي مي حمدي آلاء صلاح ميادة عمرو سارة سلام سارة مجدي سارة عادل ريهام سامي أمنية العربي ألحان المهدي دينا محسن هدير الشريف ثائر الصيرفي أحمد الشاذلي إسماعيل سيد كريم شهدي. المزيد من مقالات د. عمرو عبد السميع