.. أما لماذا تتركز كراهية المتطرفين دينيا للمثقفين والفنانين؟ فلأنهما يجسدان الأشباح المكبوتة التى يسعى المتطرفون إلى دفنها، أو كبتها.. وليس من قبيل المصادفة أبداً أن المتطرفين لديهم هوس بدفن النساء وتقطيع أوصال الرجال. ألم يقم إله الصحراء «ست» بتقطيع أوصال أوزيريس رمز الفحولة، ونفى أوزوريس رمز الخصوبة؟
أحد الأصدقاء، أو الكتاب، لا أذكر، لفت انتباهى مرة إلى التشابه بين أفكار المتطرفين وأفكارعبدة «ست»، الذى تحول إلى «ساتان» و«شيطان» فى الديانات التى أتت بعد الديانة الفرعونية. الاثنان يكرهان كل ما يمت للحياة بصلة، الجنس والنساء وموسم الربيع والغناء والرقص، ويحترقون شوقا للحرق والقتل والقضاء على أى مظاهر للخصوبة والبهجة.
من العجيب أن نتتبع ما فعله أتباع «ست» بالعقيدة المصرية القديمة، وكيف دمروها من الداخل، وهو حديث يطول ليس مجاله هنا. اليوم أريد أن أحدثكم عن عرض فنى راقص، من تأليف وأداء شباب الدفعة الحالية من استديو الممثل، التابع لصندوق التنمية الثقافية، والذى يديره المخرج والمؤلف والممثل خالد جلال.
العرض يحمل عنوان «أين أشباحي؟»، وهو اسم مشتق جزئيا من إحدى روايات احسان عبد القدوس وجزئيا من جملة ترد على لسان أحد شخصيات فيلم كوميدى لأحمد مكى...لكن صناع العرض استطاعوا أن يعبروا من خلاله عن معنى آخر يشبه الفكرة التى بدأت بها المقال، والتى تجسد الحالة التى يعيشها المجتمع المصرى كله الآن: الخوف من الوقوع فى براثن عبدة «ست» إله الجدب والموت، والرغبة الجارفة فى النجاة والانتشاء بمتعة الحياة.
قبل أن يبدأ العرض يغرق المسرح والمشاهد داخله بين موسيقى متوترة وأضواء خافتة وصورة جدارية كبيرة لجمجمة سيدة ميتة، تشبه إلى حد ما الهيكل العظمى للأم فى فيلم «سايكو» رائعة هيتشكوك. ومع بداية العرض يتبين لنا أن المكان قصر كبير مسكون يقطنه رجل غامض ثرى هو نسخة من الكونت دراكيولا مصاص الدماء. يصل إلى القصر ثلاثة شباب للعمل كحراس أمن، هم نسخة من ملايين المصريين الفقراء البسطاء، يضطرون إلى قبول العمل فى القصر الذى احترقت صاحبته وضيوفها جميعا أثناء حفلة راقصة منذ عشرات السنين.
عقب تسلم العمل تبدأ الأشباح فى الظهور والرقص فرادى وجماعة. هذه الأشباح هى الأشياء الوحيدة الحية فى هذا القصر، ورقصاتها هى باطن وظاهر هذا العرض، وهى تفضح بحيويتها ورشاقتها وأناقتها خيبة وترهل الحراس الثلاثة، وتثبت أنها أكثر حياة من الأحياء.
فى النهاية يحاول الحراس أن يتخلصوا من الأشباح التى تعكر عليهم خواء وسكون عالمهم، فيدبروا حيلة ل«صرفها» من القصر، ولكن يتبين أن الأشباح هى التى دبرت هذه الحيلة لطرد الحراس المملين واستعادة حياتهم المبهجة!
إذا كان الموت هو شبح الحياة، فالحياة هى شبح الموت، ومثلما نرى فى فيلم «الآخرون» الذى لعبت بطولته نيكول كيدمان أن الأحياء هم الموتى والعكس، لا تملك وأنت تشاهد هذا العرض سوى أن تتساءل عن الأكثر حياة، الأشباح أم الحراس؟ وفى كل الأحوال سوف تعشق الأشباح وحيويتها وطيبتها وتكره الحراس المتطفلين البلهاء.
وبعيدا عن هذه الاستعارات الفنية المعقدة، نعرف كلنا أن الفرد والمجتمعات الذين يعيشون فى كبت مزمن يتعرضون لهلاوس سمعية وبصرية تتجسد من خلالها «عفاريت» جنسية مثيرة، تحقق للفرد أو المجتمع المكبوت رغباته بطريقة محرفة ومنحرفة، والتفسير البسيط لهذا العمل الفنى أن «حراس القصر» مجموعة من المرضى النفسيين المكبوتين والراغبين فى كبت الآخرين، يحاولون السيطرة على الرغبات والغرائز وكل مظاهر الحياة حولهم، ويعتقدون أنهم سيفلحون فى ذلك، ولا يدركون أن «الأشباح» ستقصيهم عن القصر والمجتمع قريبا جدا!
ورغم أن العمل تخيم عليه مسحة من الكآبة والخوف تظلل حياة المصريين جميعا هذه الأيام، إلا أن العرض نفسه وصناعه هم أكبر دليل على أن الحياة ستنتصر على كل حراس التخلف الذين احتلوا القصر!