عندما يتعلق الأمر بمصائر الوطن، تنقلب الموازين كلها، ويظهر باطن الإنسان العادى الذى كنت تعبره كل يوم، فلا يخطر ببالك أبدا أنه يمكن أن يكون رجلا نبيلا، دائما فى الأزمات الكبرى، نستطيع أن نعرف الرجال فى معادنهم الحقيقية. ............................................... «سبع الليل» لقب أطلقه أهالى زفتى على رجل خارج عن القانون، السبع فى اللغة هو اسم من أسماء الأسد الكثيرة، والليل مملكته التى يجول فيها ويصول فارضا سطوته الغاشمة، شاربه مفتول ليقف عليه الصقر، ومنكباه عريضان يسدان أشعة الشمس فى عنفوان ظهيرتها، أما عيناه فإن سُلّطتا على عشب جاف تحرقانه، اليوزباشى «إسماعيل حمد»، مأمور قسم زفتى أعيته الحيل كلها فى القبض على «سبع الليل» أو أى من رجاله، كان بارعا فى الهروب، كما كان بارعا فى المراوغة. «سبع الليل» يسكن الجبل مع عصابته كثيرة العدد، فى النهار يأكلون الطيور العابرة فى الأجواء محملة بالأشواق للبلاد البعيدة، بعد أن يقنصوها ببنادقهم التى لا تخطيء أهدافها أبدا، ويقومون بشيها على نيران حطب أشجار الصفصاف الحزينة، ثم يشربون الحشيش فى تلذذ بطيء، حتى إذا جن الليل، تسللوا خفية ليهبطوا على سكان البلدة الآمنين، يروعونهم، ويأخذون منهم الأموال والحلى والمواشى، ويصعدون للجبل، ليسمعوا مواويل الغربة والعشق من الشاعر الجوال الذى يحمل ربابة لها وتر ولها أنين، وكانت فدادين حنجرته مزروعة بالأسى، هم كانوا عشاقا لنساء خرافيات لا يلتقون بهن أبدا، وكانوا يعانون الغربة بعد أن أقاموا سياجا بينهم وبين العمران، وكان الأسى يملأ عيونهم، فلكل واحد منهم حكاية جارحة، وقلب جريح. مرة، أسند «سبع الليل» ظهره إلى تجويفة فى المغارة، وعاين شقوق السقف المتعرج، وهو يستمع إلى شاعر الربابة، كان شاعر الربابة يقول عن البطولة، ويقول عن العشق، ويقول عن «أبى زيد الهلالى سلامة»، وتر الربابة مشدود، ودماء القتلى تجعل رنة الوتر حادة، وكان «أبو زيد الهلالى سلامة» بعد أن طرح أعداءه أرضا يقول فى حنجرة الشاعر الذهبية: قولوا لبنت امى تغطى وتستحي ليجولها الخطاب فوق النجايب وقولوا لبنت العم ترحل لاهلها حرم عليها اليوم شوف الحبايب. انتفض قلبه، وسأل شاعر الربابة: وهل بطل الهلالية كان يشبهنى يا أيها القوّال ذو الكلام المنغم؟. نظر إليه القوّال نظرة فاحصة، وأجابه: أنت الذى تشبهه، هيأتك كهيأته، لكنه كان له طريق، وكانت رجلاه تخطوان فينبت النجيل فى تجويفهما، وأنت خطواتك بلا طريق. نام «سبع الليل» وكان يحلم بالجازية تدخل عليه المغارة، مجلوة ومعطرة، فتصعد به للغيوم الرحّالة. زفتى بلدة صغيرة تبعد عن إيتاى البارود خمسين كيلو فقط، وكانت الأخبار تأتى من إيتاى البارود متحدثة عن شاب صغير فى العشرين من عمره، اسمه «أدهم الشرقاوى»، يقتل الانجليز، ويسرق فلوس الأغنياء فى عزبة خلجان وفى كوم حمادة وفى الدلنجات، ويفرقها على الفقراء، كان بارعا فى التخفى، حتى أنه كان يرتدى بدلة الضباط الانجليز، ويدخل مراكز البوليس، ويصدر الأوامر للعساكر باللكنة الأجنبية، وكان يرتدى الملس واليشمك وينزل لسوق النسوة، ويتحدث معهن بلسان الحريم، وذاع صيته فى النواحى كلها، لكن رجال «سبع الليل» لما رأوه مشغولا بأنباء الشاب الصغير، همسوا فى أذنه: هو ليس أكثر من قاتل مأجور، مثلنا يا سيدنا، فلا تصدق الكلام الدوار فى المقاهى، فالناس فاضية. هز «سبع الليل» رأسه، مؤمنا على كلام رجاله: نعم، هو مثلنا، لكن الناس فاضية. فى الثامن من مارس عام 1919 تم اعتقال «سعد باشا زغلول» ورفاقه، فقامت القيامة فى مصر كلها، لكن الذى حدث فى زفتى كان شيئا يفوق التوقع، ففى الثامن عشر من مارس سرى الخبر بطيئا من فم لفم، وسرعان ما عم المكان كله، والقرى المحيطة بزفتى، وتناقلته الأفواه فى مصر المحروسة، بل عبر البحار واصلا للقصر الملكى فى إنجلترا، زفتى أعلنت استقلالها عن المملكة المصرية، وبالتالى لم تعد خاضعة للحماية البريطانية، وأصبحت جمهورية، لها رئيس اسمه «يوسف الجندى»، ولها علم ونشيد، وكونت جيشا خاصا بها، وأصبح لها جريدة ناطقة باسمها، وفى مدخل الجمهورية الصغيرة وضعوا كشكا للموسيقى. زلزلت الأرض، حتى ان بريطانيا العظمى اضطرت لخلع المعتمد البريطانى فى القاهرة السير «ونجت» وعينت بدلا منه الجنرال «اللنبى». البكباشى «إسماعيل حمد» مأمور قسم زفتى، الذى أصبح كأنه وزير داخلية الجمهورية الجديدة، أوقف الثوار الذين كأنهم جيشه فى طابور طويل، وفتح السلاحليك، وسلم كل واحد منهم بندقية، وغَرفة من الذخيرة، وكان يبتسم لجنوده، كما يليق بقائد يبث الطمأنينة فى نفوس رجاله، لكنه لمح فى آخر الطابور رجلا كأنه يعرفه، وظل يغرف فى الذخيرة ويملأ بها جيوب الثوار بيده اليمنى، ويمنحهم البندقية بيده اليسرى، وكان الطابور يتناقص، حتى رآه، واقفا أمامه وجها لوجه، وهو الذى ظل يطارده سنوات وسنوات، فابتسم له، وقال: حتى أنت يا «سبع الليل». وكأنه خجل من مطارداته القديمة له، فنظر فى الأرض وأجابه: أنا ورجالى فداء للوطن، ثم أردف بعد أن رفع عينيه لمستوى عينى البكباشي: لقد وجدت لخطواتى طريقا. قبل أن يشتبك الثوار مع القوات الانجليزية والاسترالية التى كانت تهبط البلدة من البر والبحر، كان «سبع الليل» يمسك بكوع الشاعر الجوال، ويقول له فى رجاء كبير: إذا مت، احك حكايتى على الربابة للناس، قل لهم عن النجيل الذى ينبت فى أثر خطواتى. استمرت المعارك أحد عشر يوما، بلياليها ونهاراتها، بأحصنتها وسفنها، برصاصها وكرابيجها، وقد استطاع «سبع الليل» أن يكون الفتى الذى يشار إليه بالبنان فى كل هذه الأحداث، فقد كان هو بطل موقعة كوبرى ميت غمر، التى قرر أن يواجه فيه اعداءه خارج الجمهورية الوليدة، فانتظرهم على الكوبرى وكسرهم كسرة كبيرة، وعندما عرف أن القطار القادم من القاهرة محمل بمئات الجنود الانجليز، ومعبأ بأطنان مطنطنة من البنادق والذخيرة، قام هو ورجاله بقطع أكثر من عشرة كيلو مترات من قضبان شريط السكة الحديدية، فعجز القطار عن دخول الجمهورية الناشئة، حتى استطاعت القوات البريطانية فى نهاية الأمر، أن تسيطر على الأمر، وتهدم أركان دويلة هزت أركان الامبراطورية العظمى فى عز مجدها، ولجأ الثوار إلى عزبة «سعد باشا زغلول» فى قرية مسجد وصيف، فاستقبلتهم أم المصريين، «صفية هانم زغلول»، وأمنتهم، وساهمت فى تخبئتهم فى أماكن سرية بعيدا عن عيون الجواسيس التى تترصدهم، وظلوا مختبئين حتى تم الإفراج عن «سعد باشا زغلول» ورفاقه فى السابع عشر من أبريل عام 1919، وخرج الشعب المصرى كله يحتفل بعودة المنفيين، وكان من بين المحتفلين، ثوار جمهورية زفتى، الذين حصلوا على العفو، وعادوا لبلدتهم. البكباشى «إسماعيل حمد» الذى كان كأنه وزير الداخلية، عاد لعمله كمأمور لقسم زفتى يحرص على استتباب الأمن ويطارد الخارجين على القانون، و «يوسف الجندى» الذى كان كأنه رئيس جمهورية، عاد لعمله كمحام يترافع فى قضايا الفلاحين ويحل مشاكلهم مع الجمعية الزراعية، والثوار الذين كانوا كأنهم جيش نظامى، عادوا لأعمالهم فى الحقول يقلعون ويحصدون وينتظرون بيع المحصول، الوحيد الذى لم يجد له عملا يعود إليه، هو «سبع الليل»، فقد أصبح من المستحيل أن يعود إلى مغارة الجبل، بعد أن نبت العشب فى تجويف خطواته، فاكتفى بالجلوس على المقهى، يجتر ذكريات النضال. كان وهو يجتر الذكريات، يتابع أخبار الشاب الأيتايبارودى، هذا الذى من محافظة البحيرة ويحمل لقب محافظة الشرقية، ومن غرائب الأمور، أن حكاياته كانت تكبر، وتعبر القرى، وكانوا يصورونه على أنه البطل الذى يدوخ الدنيا، وشهرا وراء شهر، يزداد هوس الناس به، ولم تمض غير سنة وبعض سنة، حتى قتله البوليس فى أواخر أكتوبر من عام 1921 وهو فى الثالثة والعشرين من عمره. فى الليالى الطويلة التى لا نهاية لقمرها، كان «سبع الليل» يجلس فى المقاهى، بعد أن شيّخ وهزلت رجلاه، وكان يستمع إلى شاعر الربابة الذى شيّخ هو الآخر، لكن الفدادين المزروعة فى حنجرته مازالت ريانة، وكان يغنى للأدهم ضاربا على الوتر الأنان، ويقول عن البطولة والوطنية: يا قاعدين كلكم وحِّدوا الإله يا هوه دى الحادثة اللى جرت على سبع شرقاوي داسوا عليه الرجال قتلوه ومنين اجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه؟ مواله أهل البلد جيل بعد جيل غنوه. كان صوت «سبع الليل» القوى قد صار ضعيفا، لكنه كان يصرخ فى الناس الملمومة: هو قاطع طريق يا ناس، وليس بطلا، وليس لتجويف خطواته نجيل فى الطريق، هناك بطل حقيقى يا أيها الناس، اسألوا عنه هذا الشاعر يخبركم. ولما تتوجه الناس بالسؤال للشاعر الجوال، كان يضرب على وتر ربابته الأنان ويقول: راح المغارة للادهم والمغارة أمان قال له تعالى يا مرحب بالعزيز بدران وراح له تانى وتانى والوقت لسه نهار وقابله الادهم وقاله هلت الأنوار ولا كانشى يعرف صديقه إنه هايخونه ولكل آخر نهاية والزمن دوار ومنين اجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه؟ مواله أهل البلد جيل بعد جيل غنوه.