شاهد، أعمال تركيب القضبان والفلنكات بمشروع الخط الأول من شبكة القطار الكهربائي السريع    الصين تُبقي أسعار الفائدة دون تغيير للشهر السادس رغم مؤشرات التباطؤ    ترامب يوقع قانونًا لنشر ملفات جيفري إبستين.. ويعلن لقاءً مع رئيس بلدية نيويورك المنتخب    حجبت الرؤية بشكل تام، تحذير عاجل من محافظة الجيزة للمواطنين بشأن الشبورة الكثيفة    سيد إسماعيل ضيف الله: «شغف» تعيد قراءة العلاقة بين الشرق والغرب    ترامب يرغب في تعيين وزير الخزانة سكوت بيسنت رئيسا للاحتياطي الاتحادي رغم رفضه للمنصب    أخبار فاتتك وأنت نائم| حادث انقلاب أتوبيس.. حريق مصنع إطارات.. المرحلة الثانية لانتخابات النواب    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 20 نوفمبر 2025    انتهاء الدعاية واستعدادات مكثفة بالمحافظات.. معركة نارية في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    تحريات لكشف ملابسات سقوط سيدة من عقار فى الهرم    زكريا أبوحرام يكتب: هل يمكن التطوير بلجنة؟    زوار يعبثون والشارع يغضب.. المتحف الكبير يواجه فوضى «الترندات»    دعاء الفجر| اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله    بيان سعودي حول زيارة محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة    مستشار ترامب للشئون الأفريقية: أمريكا ملتزمة بإنهاء الصراع في السودان    سفير فلسطين: الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية ثابت ولا يتغير    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    كيفية تدريب الطفل على الاستيقاظ لصلاة الفجر بسهولة ودون معاناة    فلسطين.. تعزيزات إسرائيلية إلى قباطية جنوب جنين بعد تسلل وحدة خاصة    مكايدة في صلاح أم محبة لزميله، تعليق مثير من مبابي عن "ملك إفريقيا" بعد فوز أشرف حكيمي    مصادر تكشف الأسباب الحقيقية لاستقالة محمد سليم من حزب الجبهة الوطنية    طريقة عمل البصل البودر في المنزل بخطوات بسيطة    يحيى أبو الفتوح: منافسة بين المؤسسات للاستفادة من الذكاء الاصطناعي    إصابة 15 شخصًا.. قرارات جديدة في حادث انقلاب أتوبيس بأكتوبر    طريقة عمل الكشك المصري في المنزل    أفضل طريقة لعمل العدس الساخن في فصل الشتاء    مأساة في عزبة المصاص.. وفاة طفلة نتيجة دخان حريق داخل شقة    أسعار الدواجن في الأسواق المصرية.. اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    خبيرة اقتصاد: تركيب «وعاء الضغط» يُترجم الحلم النووي على أرض الواقع    وردة «داليا».. همسة صامتة في يوم ميلادي    بنات الباشا.. مرثية سينمائية لنساء لا ينقذهن أحد    مروة شتلة تحذر: حرمان الأطفال لاتخاذ قرارات مبكرة يضر شخصيتهم    مهرجان القاهرة السينمائي.. المخرج مهدي هميلي: «اغتراب» حاول التعبير عن أزمة وجودية بين الإنسان والآلة    خالد أبو بكر: محطة الضبعة النووية إنجاز تاريخي لمصر.. فيديو    ضبط صانعة محتوى بتهمة نشر مقاطع فيديو خادشة للحياء ببولاق الدكرور    إطلاق برامج تدريبية متخصصة لقضاة المحكمة الكنسية اللوثرية بالتعاون مع المعهد القضائي الفلسطيني    إعلام سوري: اشتباكات الرقة إثر هجوم لقوات سوريا الديمقراطية على مواقع الجيش    موسكو تبدي استعدادًا لاستئناف مفاوضات خفض الأسلحة النووي    بوتين: يجب أن نعتمد على التقنيات التكنولوجية الخاصة بنا في مجالات حوكمة الدولة    تأجيل محاكمة المطربة بوسي في اتهامها بالتهرب الضريبي ل3 ديسمبر    خالد الغندور: أفشة ينتظر تحديد مستقبله مع الأهلي    دوري أبطال أفريقيا.. بعثة ريفرز النيجيري تصل القاهرة لمواجهة بيراميدز| صور    تقرير: بسبب مدربه الجديد.. برشلونة يفكر في قطع إعارة فاتي    ديلي ميل: أرسنال يراقب "مايكل إيسيان" الجديد    بالأسماء| إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم ميكروباص وملاكي بأسيوط    فتح باب حجز تذاكر مباراة الأهلي وشبيبة القبائل بدورى أبطال أفريقيا    أرسنال يكبد ريال مدريد أول خسارة في دوري أبطال أوروبا للسيدات    "مفتاح" لا يقدر بثمن، مفاجآت بشأن هدية ترامب لكريستيانو رونالدو (صور)    ضمن مبادرة"صَحِّح مفاهيمك".. أوقاف الفيوم تنظم قوافل دعوية حول حُسن الجوار    لربات البيوت.. يجب ارتداء جوانتى أثناء غسل الصحون لتجنب الفطريات    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    تصل إلى 100 ألف جنيه، عقوبة خرق الصمت الانتخابي في انتخابات مجلس النواب    أمريكا: المدعون الفيدراليون يتهمون رجلا بإشعال النار في امرأة بقطار    ماييلي: جائزة أفضل لاعب فخر لى ورسالة للشباب لمواصلة العمل الدؤوب    قليوب والقناطر تنتفض وسط حشد غير مسبوق في المؤتمر الانتخابي للمهندس محمود مرسي.. فيديو    خالد الجندي: الكفر 3 أنواع.. وصاحب الجنتين وقع في الشرك رغم عناده    أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عز الدين نصر الدين حارس كنز الهلالية يعود من تغريبته الأخيرة
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 06 - 2015


أول ما نبدي القول نصلي علي النبي
صلاة النبي تغني عن القوت
وتمنع البلا والمراضي
يستاهل علقته بالصوت
اللي معاه كفو الزياره وما راضي
كان "رمضان" يجمعنا به وبصوته، وبحكاياته الحكيمة التي لن نسمعها منه مرة أخري، فقط علينا استعادته واستعادتها، إنه عز الدين نصر الدين، شاعر الهلالية الذي لمع كشهاب ذي ثلاث شعب: الفن، الأخلاق، محبة واتقان ما يعرف، لم يكن موته عاديا، فهل اختار أن يموت مضمخا بعطر تراب بلده بعد عودته من رحلة كأنها تغريبته الأخيرة، هل آثر أن يحيطنا بالغموض وهو يرحل، هل أراد أن يساوي بين لغز الموت وشفرات مربعاته المجروحة، أم أنه اختار أن ينتصر نصه/ نص جماعته الشعبية علي فناء الجسد؟ فإذا صحبته في لياليه ستغرق حتي أذنيك في محبته وستصبح مريدا طيعا للروح التي يشعها علي من حوله، وعليك ألا تمل من الدخول لكهوف الهلالية ومغاراتها وبلدانها ومراجعها، فإذا رأيت عفرة تشب قادمة من الصحراء، فأعلم أن"عز الدين"يرسم ب "المربع" حربا بين الهلالية وإحدي القبائل، وإذا أرقتك أصوات السيوف وهي تسحب من الأغماد فثق أن أصوات الربابات المصاحبة لعز الدين قد احتدت لتهيئ الحضور لمشاهدة إحدي المعارك بين دياب بن غانم وبني هلال، وإذا رأيت حكمة في صورة امرأة لها ثلث الشوري تأكد أن عز الدين نصر الدين يستدعي الجازية لتقف أمامنا شاخصة بجمالها وحكمتها.
مفارقة الميلاد
بكت الأميره وقالت له
يابو زيد يا عز الحبايب
يا بطل حملي قالت له
وربك حاضر ليس غايب
تمر هذه الأيام ذكري ميلاده، و يالها من مفارقة حين يولد ابن في عام النكسة، لتكون بكائيته الأولي عام 1967 فيحقق الأب انتصارا مجازيا مسميا ابنه "عز الدين" متمما سلسلة الفخار ب "نصر الدين"، وهكذا تبدأ الأقدار لعبتها حين تستدعيه لرواية الانكسارات والانتصارات والارتحالات بين القبائل في رحلة تاريخية وجغرافية، لعب فيها المجاز لعبته الجمالية الكبري، فالهلالية ذلك الكنز القولي الأكثر حضورا في الذاكرة الشعبية؛ الهلالية/السيرة، ليست كما يؤكد الراحل عز الدين نصر الدين سوهاج، البلينا، قرية بر خيل قصصا عن الحروب، وإنما تعد كتابا للأخلاق والمعرفة والشعر، فمن سيروي لنا حكاية رحيل الشعراء صغارا، وهل هناك لعنة تلاحق من يحمل أسرار الهلالية وحكاياتهم، ومن سيضع "العدودة إلي جوار أخواتها" ليبكي عز الدين ويبكي موت الرواة دون عودة، بل سنبكيهم في رحلة العود الأبدي لنقطف زهراتهم من أشجار ننتظر نبتها، ونخلات حطت تمرها فذوقنا حلوها ومرها علي لسان واحد، وأحجار منقوش عليها "يا زارع الصبر هو الصبر شجره قل"، ورمال حفظت أثر الخطو لناسنا الحقيقيين فشالتها أخفاف الإبل لتأتي إلينا شعرا وروايات .
ميراث الأوتار
يا دنيا أهو زاد عجبكي
وعشنا ورأينا العجايب
خليتي الأصيل عا يبكي
ياما مسكين عدم الحبايب
اصطحبه والده الحاج "نصر الدين محمد" وعمره سنتان لا ليعلمه السيرة وأصولها، بل يبتعد به عن أقرانه منعا للمشاكل، فقد كانت حروب السيرة ومعاركها تكفيه، كان يعشق المجاز ولا يريد أن يتورط في الواقع وقسوة ناسه، لا يتذكر "عز" متي عشق الرباب، لكنه يرجح أن العشق وَتَاه وهو في السابعة. سن صغيرة للتعلق بالأوتار، ومحبة تكبر داخله، بعدما سبقه "عزت" أخوه الأكبر في معرفة ضروب الإيقاع ليتحول بعدها لعشق الأغنية والموال فيصدره أبوه ليبدأ الحفل ب "الفرفشة"، هكذا توزع الميراث السيري ليأخذ "عز" نصيبه من الحكي بالمربع، بينما استأثر "عزت" بالموال وتنويعاته والأغاني الخضراء والحمراء، الخضار والحمار هنا للدلالة علي الحب العفيف والحمار للعشق الجارف، فيما يشارك معهما عيد وخلف الله والزناتي نصر الدين أصغر عازف رباب، وأحد الورثة النجباء للسيرة لتكتمل حلقة القص معلنة عن جوقة "عز الدين" وفي زمرتها سنجد "عم فاوي القناوي" الفارس العاشق لكل سطر يغني، تراه وهو يحتضن ربابته، كأنه يعتصر محبوبة لا تفارق جسده أبدا، كأن تكوينها منه، وهو منها، رحل عنا تاركا قصة هنا وحكاية هناك، فقد كان ظاهرة في الأداء وسوف نأتي لحكايته منفردة، ومعهم "ياسر" الذي يشبه أبطال الهلالية في صلابته ورقته المختفية خلف وجه جاد يعشق انتصارات الأبطال في مواجهة الظلم، بينما يتوسطهم الراحل "ترجيعة" سليل عائلة جرامون التي حملت جزءا مهما من تراثنا ومأثورنا الشعبي.
من يستمع إلي عز الدين وهو يحكي سيغمره إحساس بالشفقة عليه، فكيف يحمل كل هذه الحكمة، وكل هذه الأحداث، وكل هذا الشعر، ويدرك ملامح الشخوص وخصالها، أوجاعها وأفراحها، يعرفها أحيانا، ويكتشفها أحيانا أخري، فيحركها ويتحرك معها، مرة عبر جلسة مشورة أو في معركة أو في حلقة سمر، وكيف لجسمه الضئيل تحمل هذه الآلام والتناقضات والأحلام التي لا تبرحه في صحوه ونومه.
انصت إليه وهو يقول "ورثت عن والدي السيرة، نغماتها، الطريقة التي تؤدي بها، أبي كان المعلم.. كان ممكن يحكيها كلها، لكن ما يِشْعِرهَاش كلها" وينهي جملته مؤكدا أن هناك رواة يعرفون السيرة وتفاصيلها، لكنهم لا يستطيعون "تربيعها"، أي يؤدونها بطريقة المربع :
آدي سجن الزناتي أهو يا جاز
وأنا البطل حاضر معاكي
وليكي رأي وسط العرب جاز
روحي وعمري فداكي
مواجهة الناس
بنظرة العارف، يحدثني ممسكا بربابه، مارا بأصابعه علي جسدها، كأنه يستنطقها الأسرار: "تحفيظ السيرة سهل، لكن الأوعر أن تعرف تأديها، وتعرف تِوْصِلها بالناس .. أبويا كان شاعر، وجدي أبو والدتي كان شاعر، بس بيقول السيرة "فرادي"" يعني زي الشعر اللي بيسموه الشعر الحر، وخالي عبد الباسط نوح شاعر".
في هذه الأجواء كان الطفل يكبر، وتكبر رغبته في المعرفة "يعني علي عشر سنين كنت باعزف، وفي سن ستاشر كنت با اشعِر". كان موت والده إذنا بحمل الرسالة "بدون حارس أو معلم بعد والدي بدأت أواجه الناس، وقعدت استفسر عن السيرة، ومن كتر مروري ع البلاد لقيت مراجع من الناس، كانت مراجع عجوزه في سن السبعين والتمانين"، إنها رحلة التعرف علي تفاصيل السيرة وتتبعها، واستبطان معانيها وعلاقات شخوصها ببعضهم وتكوين ملامحهم .
مراتب الرواة
مدحت الحبيب النبي ما خلق الإله مثال شكليه
ومن معجزات النبي راح له البعير شكليه
نبي عاش من العمر لم داق الحرام شكليه
وعاشق سهر ليل وقلبه للحبيب رامه
عمل مثال بحر إذا هيَّج وزاد رامه
نبي عدَّي ع البحر لا مركب ولا رامه
عشان جمال ابن رامه فتَّح الشكليه
التفت لرؤيته للرواة وتصنيفهم، ووضعهم في مراتب حسب الحفظ والأداء والصدق، فالحفظ ليس بحاجة لتعليم، أما الأداء فمحتاج إليه، فهناك "راوي كذاب، وراوي منافق، وفيهم اللي بينقَّص واللي بيحملها حاجات من براها، وفيهم واحد بيغني بس وبيجبوه عشان صوته حلو في الليل والموال "وليس الأمر مقتصرا علي الراوي / الشاعر، فقبول المستمع يمثل درجة في المكانة التي يعتليها الراوي "لو مفيش سميعه بجد هايهينو اللي حافظه الراوي"، فالسيرة ورواتها لا قيمة لهم دون جمهور واع / دون سميعة يدركون المعني ويضيفون إليه بالصمت الذي يعني الدهشة أو بالتعاطف أو الانتصار للبطل وصحبته
لو ذهب عز إلي بلد ولم يجد فيه " سميعه " فإنه لا يعاودها ثانية " .. أيوه علي رأي جابر أبو حسين : المستمع يا اخوانا شريك القوال" فإذا فهم المستمع، فإن الشاعر يكون قد أحسن القول،
فالفنان الشعبي هو "اللي بيعمل كل حاجه، يلحن ويألف، ويجيب م الناس، وما يبقاش محتاج لبروفه، إزاي يبقي فنان شعبي وهو بيتكتب له ويتلحن له "، هذا هو المعني الذي يلتبس حتي الآن علي قدامي الأكاديميين المتشدقين بنصرة الجماعة الشعبية وهم يكرهون رؤية مبدعيها، بل إن بعضهم لم يعرف التراب قدمه في الطريق لنيل شرف التعرف علي حملة المأثور الشعبي .
عند هذه النقطة يتوقف كأنه تذكر كيف يصنع ربابته بنفسه، وحين شرح لي معني "السبيب" / أوتار الربابة، كأنه كان يستدعي تاريخا بأكمله انتزعه من أحد المعابد ليؤكد أن الأوتار لم تمت بعد، وأن النقوش مجرد رسالة مازالت أحرفها تنبض بالحياة "آخد حبة من شعر الخيل، انقي الوتر الطويل، شبرين، شبرين ونص، وبعدين أغسلهم، والويهم علي صباع رجلي، واسدِّي فيهم، واسمع يا سيدي"
بات العليل بات يتسلي علي قولتاه
حيلة العليل إيه غير نوحه وقولتاه
جولوا طبيبين من البدر علي قولتاه
جربوا علي الجراح برياشهم جربوا
دكموا الدما سال بل الفرش والجربوا
اتلموا أهله وناسه ع العليل جربوا
باتوم عطاشي ولم جربوا علي قولتاه
(قولة .. آه )
(قولته)
(اسمان : علي وقلته)
(من التجريب)
(القربة / الجربة)
(قربوا)
(من القلة: إناء للشرب قلته)
هكذا سنري "عز" مرتحلا، مرة راكبا حمارا، وأخري علي ظهر سيارة، وثالثة في قطار، فعلمته الارتحالات الصبر علي الحروف، ومصادقة الأبطال، بل التحلي بصدقهم "أيوه أبطال السيره صادقين، واتطبعت أخلاقي بأخلاقهم، وحاسس إني شايلهم كلهم جوايا، وباطبَّق اللي في السيره في بيتي".
السيرة حياة كاملة
أبديت اندهاشا، رغم معرفتي أن عز الدين قد سمي ابنه الزناتي قاصدا "زناته"، أي ناس خليفة جميعهم، لاحظ أن والد زوجته اسمه أبو زيد، نعم أنه يعيش السيرة، لا كما نعيش نحن معشر الشعراء في حروفنا، لكنه يمارسها فنا وسلوكا "يعني لو عيل كسر التليفزيون، ما اتخانقش معاه، عشان السيره علمتني الحكمة دي : من أتلف شيئا دون قصد فليس عليه ذنب".
حكاياته حول السيرة لا تقل جمالا عن قصص " المواليد ذ الريادة ذ التغريبة ذ الأيتام"، فليس بين الحكايات والقصص مسافة، كأنها طرق رملية تقودك لكهف مخيف، لكنك حين تصله يغرقك بالجمال والحكمة "فيه قصه عن "مناع" أخو حسن الدريدي؛ مناع بن سرحان أخو السلطان حسن قُتل خطأ، فمن قتله لم يحملوه ذنب، لو إنه كان عرضة للاتهامات، هو مين: دياب بن غانم، لما لعب مع مناع البرجاس شيع الجريدة في عينه فقتله، لكن أبو زيد قال إنه لا يقصد " أركب مع "عز الدين" أرجوحة من خيال لا تعترف بتتابع الزمن، فينتقل لمراحل تكونه وطفولته، وأحلامه، والسيرة، فيتصل الخيط ليعود ثانية، مشتبكا مع حكايات الطريق وإجهضات الواقع، وعلي الرغم من حفظه للسيرة في تتابع زمني، تاريخي، شعبي غض النظر عن التاريخ الحقيقي الذي لم يصلنا مكتملا فإنه يرجع بنا لحلم قديم، يبدو أنه لا يزال يؤرقه "كان حلمي إني أكون منشد ديني، لما اتعلمت واتعمقت في العلم، اتمنيت أكون واعظ " هكذا يجمع "أبو الزناتي" محبته للإنشاد، واكتنازه للحكمة مع نص الهلالية ليصبح كنزا حيا يتحرك بيننا، ينشد بكل قلبه، وخلفه القرآن وفقه السنة والأحاديث والأشعار الصوفية، وميراث الأجداد من السيرة، والغيرة ؛ "الغيرة إحساس اتعمق جوايا من خلال السيرة، الإحساس بيها بيولد أبطال وشجعان وشعراء ؛ يعني اللي يعيش في أمريكا ما يعرفش الغيرة علي اللي هنا، ولولا غيرة جابرأبو حسين من محمد الطباخ، وغيرتي من جابر ما كانش يقوم للسيرة كيان"
الغيرة هنا هي دافعه للتجويد والتميز، ليست غيرة المرضي ولا الزوجات، لكنها غيرة علي السيرة وتفاصيلها؛ علي مراجعها الكبار ممن يموتون ولا يتم اللحاق بهم، بينما يتصارع بعض الفولكلوريين ممن يملكون العلاقات والمال ليحولوا الأمر إلي ""سبوبة"، وهم طريقهم لها لا يعنيهم إلا "النص" بعيدا عن "الناص"، وهو ما يذكرنا بالخولي الذي يمسك العصاة ليتواصل جمع المحصول علي جثث "الشغيلة" والرواة دون أدني إحساس بالاهتمام بالمصدر/ زارع وحامل المحصول .
مديح التشوه
حين يحكي "عز" ستدرك كم يتأسي علي رحيل الكبار، وعلي الزمن الذي سرق من الراوي هيبته، ومن السيرة جمالها ليحولها إلي دكان، فقد مات معظم الرواة ولم ينل واحد منهم شارة ولا وساما، بينما يتعامل التلفزيون معهم بشكل متحفي كأنه يستدعي تاريخا وشكلا وطريقة لتأكيد زيفه ومجانية ما يقدمه عبر سيادة قيم الاستهلاك وتشيئ الإنسان ووضعه موضع السلعة، فما الذي يدفعنا للاستماع إلي قصص البطولة في أزمنة مهزومة، وما الذي يجعلنا نجوب الصحاري بكثبانها وجبالها، ربما لنمارس هربا من تلك العمارات القبيحة بمن فيها، وما الذي يوقعنا في غواية الفرسان وأخلاقهم ؟ ربما لموت من كنا نحلم بهم فرسانا، أما الأحياء منهم فقد تسلحوا بأنانية مفرطة دفاعا عن ذوات تعطنت فلم تعد تقوي إلا علي مديح التشوه .
ربما يحلم الإنسان بقصر منيف، أو بجائزة، أو برحلة لبلد في العالم، لكن "عز" لا تأتيه هذه الأحلام، هو يحلم بالسيرة وأبطالها، يعيشها واقعا وحلما، فأكثر حلم يراوده ولا يفارق نومه "حفله باروي فيها السيرة، وقدامي جمهور واعي لي " كما يحلم بجابر أبو حسين يتردد عليه في المنام خاصة لو كان هناك اختلاف حول نسب بطل من الأبطال، فيأخذ عز في الهلوسة حتي يأتيه "جابر" فيرشده إلي النسب الصحيح، وساعتها لا يملك إلا تصديقه، فهو أحد كبار شيوخه وقدوته رغم أن عز لم يقابله مرة واحدة .
عز الدين نصر الدين يؤكد دوما أن جابر قدوته، وأن سيد الضوي من جابر فيراه من الحافظين البررة للسيرة، لكنه ليس حافظا للأداء، وهو يحب سيد حواس وروايته البحرية لأنها من أداء بلاده وناسه، فلم يقلد أحدا لكن طريقته تدعو المستمع لاحترامها، رغم انحياز بعض الباحثين والمهتمين لرواية الصعيد علي حساب روايات الوجه البحري التي لم تنل حظها بدافع المصادرة التي تتم يقف وراءها دوافع شخصية أحيانا أو ربما انحياز جمالي من وجهة نظر فردية علي تحديد مفهوم الشاعر بوصف أن مصر لم تنجب إلا شاعرين حقيقيين هما جابر أبو حسين وسيد الضوي وماعداهما، وهم كثيرون كانوا مجرد مغنين شعبيين، فضلا عن الخلط العجيب بين مفهوم الشاعر والراوي والحافظ، إضافة إلي الآراء التي تحتفل باليقين، ويزيد الأمر اتساعا لتزيد رقعة الانحياز الذي قد يصل للفوضي العلمية حين يؤكد الأبنودي في مقدمته للهلالية "هناك بالذات في دلتا النيل من يغني الملحمة عن طريق الموال المصري المعروف، مربعا كان أو مسبعا أو مثمنا أو محبوك الطرفين ويتكون من اثني عشر بيتا " فمن يقرأ هذا المقتطف سيتوقف حتما أمام مصطلح "الملحمة" وهي التي تختلف اختلافا بينا عن السيرة، كما أنه لا يوجد من يؤدي السيرة مكتملة أو حتي أجزاء كبيرة منها بصيغة الموال، وليس هناك أية تأكيدات ميدانية علي ذلك، كما لا يوجد مايطلق عليه الموال (محبوك الطرفين)، فالموال له طرف واحد هو قوافيه المتتالية أو المتوالية، وإذا كان متبادل القافية وهو ربما ما يعنيه فإنه لابد وأن يتكون من (13) غصنا حيث يختتم بالرباط أو "الغطا" ليكتمل الترجيع الصوتي لبداية الموال أو ما يسمي "العتبة"، وإذا كان الجمع الميداني هو المرشد للأبنية التي تقوم عليها الهلالية كبناء كبير متسع لعدد من الأشكال منها الموال، فلا دليل علي وجود الهلالية التي تروي بصيغة الموال، فالموال يمثل جزءا في بنائها سواء في روايات الوجه القبلي أو الوجه البحري .
الرواية بالموال
إن افتراضا نظريا بأن هناك نصا في الهلالية يروي مكتملا بالموال تنفيه الدراسات الميدانية، وبالتالي فإن أية تصورات ستبني علي هذا الافتراض يمكن دحضها بسهولة، يقول الأبنودي في المقدمة "الارتجال في الموال مستحيل مهما كانت قدرات الشاعر، فالموال شكل أكثر تركيبا ويحتاج إلي طويل وقت لصياغته، وإلي جهد بالغ لتوليف قوافيه . الموال لابد أن يكون محفوظا في الذاكرة بكامل صورته وترتيبه قبل الأداء ولا مجال فيه للإضافة، بل إن الوارد هو النسيان، وساعتها قد يلفق الشاعر بيتا أو بيتين لرأب صدع مواله أو يستعير من موال آخر، لا اجتهاد في الموال إلا في كيفية أدائه، أي في الغناء وليس في الخلق . الرواية بالموال تنسب للمغنين الشعبيين وليس للشعراء، ورواية السيرة بالموال حديثة، وهي دائما من فعل فاعل، فلا اللغة قديمة ولا العالم قديم، ثم إن الموال بصوره المختلفة وأنماطه العديدة في مصر، هو شكل غنائي خالص المصرية، ثابت، غير قابل للحركة، قد يستوعب التعبير عن الحب أو الشكوي من الأيام، ولكنه لا يستوعب الحرب والقتال والنزال والتعبير عن الرحيل واختلاف الوجوه والأسماء والبلدان، لا يستوعب التدفق الملحمي، ومن التعسف علي الملحمة محاولة سجنها في قوالب الموال الثابتة"
الراوي العمولة
أطل علي شاعرنا عز الدين لأسأله عن نسبة شعراء الهلالية للغجر أو للحلب وهو ما يستتبع أحيانا تحقيرهم، يبادرني قائلا : ليس ذما أن ينتسب الشاعر للغجر أو الحلب، وبدقة مربكة يقول: الشاعر لا يستطيع أن يكون حلبيا أو غجريا، لأن الغجري بطبعه قاتل، أما الشاعر فيملك حسا رقيقا فهو "رحيم علي الفروجة، علي الطيرة، فأنا لا استطيع أن أدوس علي حشرة تسعي علي رزقها، فلست خالقها حتي أمنع عنها الحياة، إلا إذا كانت مؤذية "، نعم ستجد منهم القاتل والسارق خاصة في أجيالهم القديمة، لكنهم أيضا صناع الحديد، فالحلب مخترعون، أقوياء يصنعون من الحديد كل حاجة .
خليفه لم القول واحلب
الناس عارفه لغاها
إحنا لا غوازي ولا حلب
دي ناس عايشه في فضاها
بعدما أنشد مربعه قال "أكتر ناس تحترم وتحب السيرة في محافظة قنا، خاصة في أبي تشت، القصير، لطسنا، الحسينات، السقيفي، الرزقي، وكذلك في نجع حمادي وبلادها : الهو، أبو مناع، الوقف"
نحتاج إلي مثل هذا الجمهور في كل مصر، فالسيرة تكبر من احترام الجمهور لها، لكن ما يحدث غير ذلك، فالتلفزيون لا يأتي بالرواة الحقيقيين، بل يقوم بعمل راوي "عمولة" بينما يستغني عن الحقيقي، من هنا أشعر أن "فيه حاجه بتهزمني، وهي حاجة بيتي، عندي أسرة مكونة من تلاتاشر نفر، واشتغل اسبوع والباقي أنام في البيت، والسيرة بتصغر قدام أي طلب يطلبه عيل وما اقدرش ألبيه، وممكن يتهزم جوايا خليفه وأبو زيد ما انا الشخصيات دي كلها، فالسيرة حمل تقيل بدون مطالب".
يعترف "عز" بكونه حارسا علي خزينة، لكنها تضن عليه، أو علي وجه الدقة يضن المحبون عليها وعليه، لذا فهو يأخذ من أيام الأفراح ما يعينه علي الأيام التي تخلو منها، عند هذه الجملة تراه يقيم اتزانه ليحافظ علي تمسكه بالسيرة والحياة معا، لكن مكنونه يقول بحزن " لو عرفت أبطل ها ابطل، بس أنا مش شاطر في التجاره .. بقالي 35 سنة في السيرة، ولم أحصل علي شيئ، والغريب أن الفنان الشعبي الحقيقي ممكن تسمعه الطيره بس مش محصل حاجه، قدام العيال المطربين اللي بيترقصوا علي كلام مالوش معني"
لم يرد عز أن يهاجم أحدا مكتفيا بتاريخ من هجومه علي من جعل السيرة سبوبة، لكنه أراد أن ينتهي معي بسؤال "مليت من المهاجمة لأنها لن تجدي، فأنا وحدي وسط غابة، نملة بتخربش في الشجرة، هل ها توقّع الشجرة ؟"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.