وقع الرئيس الأمريكى قبل أيام قرارا بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السورية المحتلة. فى دفاعه عن القرار الشاذ قال الرئيس الأمريكى إنه لم يفعل أكثر من إقرار الأمر الواقع، فى إشارة إلى أن الجولان ظلت تحت الاحتلال الإسرائيلى لأكثر من خمسين عاما بعد أن تم احتلالها فى حرب يونيو 1967. قبل أقل من عامين، استند الرئيس الأمريكى إلى أمر واقع مشابه لإعلان القدسالمحتلة عاصمة لإسرائيل. شيء مشابه لمصير الجولان والقدس كان يمكن أن يحدث لسيناء المصرية لو تراخت مصر فى تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلى عبر ملحمة الحرب والسلام، الحرب فى أكتوبر 1973، والسلام فى معاهدة السلام المصرية -الإسرائيلية التى تحل ذكرى توقيعها هذه الأيام. تدخل معاهدة السلام المصرية - الإٍسرائيلية فى هذا الأسبوع العقد الخامس من عمرها. عندما عقدت المعاهدة فى السادس والعشرين من مارس 1979 توقع الكثيرون لها الانهيار خلال سنوات قليلة. قال بعضهم إنه لو عاش اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل عشر سنوات فإن ذلك سيكون إنجازا رائعا، وأنه لو عاش عشرين عاما فستكون تلك معجزة. لقد حدثت المعجزة، بل إن المعجزة حدثت مرتين، فهذا الأسبوع تستكمل معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية عامها الأربعين. قد تختلف الآراء حول الرئيس السادات، دوافعه وسياساته وطريقته فى اتخاذ القرار. لكن قلة نادرة فقط يختلفون على أن الرئيس السادات كان وطنيا مصريا صميما، وبهذه الصفة فإن أكثر ما كان يؤرقه هو بقاء جزء من أرض مصر مدنسا تحت الاحتلال، وأن عقيدة الوطنية المصرية، التى تشربها منذ سنوات النضال السياسى فى ظل الاستعمار البريطانى والملكية، حتمت عليه بذل كل ما يستطيع لتحرير التراب المحتل، ولو اقتضى الأمر قبول المخاطرة بمصيره السياسي, وربما بحياته. ذاتها؛ وهو ما حدث بالفعل. خاطر السادات بمصيره السياسى من أجل تحرير سيناء مرتين، مرة عندما أصدر قرار حرب أكتوبر، ومرة ثانية عندما أعلن مبادرة السلام. كانت حرب أكتوبر مخاطرة كبرى بكل المعايير، ولعل هذا هو أحد الأسباب الرئيسية للانتصار فيها. كان ميزان القوة العسكرية بين مصر وإسرائيل شديد الاختلال، ولم يكن أحد يصدق أن مسئولا سياسيا أو عسكريا مصريا، يتمتع بكامل قواه العقلية، يمكنه المغامرة بإرسال الجيش المصرى إلى حرب أخرى ضد إسرائيل. لكن الرئيس السادات وقادة الجيش المصرى فعلوها، فبرهنوا على أن الوطنية المخلصة لها عقلانية فريدة خاصة بها؛ وأن مزيج الوطنية والشجاعة والتدريب والتخطيط والخداع الإستراتيجى يمكنه أن يهزم حسابات القوة العسكرية المنحازة لصالح العدو. لم يصدق الإسرائيليون أن الجرأة ستأتى للمصريين لكى ليهاجموا جيش إسرائيل المتفوق؛ لكن المصريين فعلوها، فهاجموا وعادوا بالنصر، وأصبح السادات بطلا بعد أن كان من الممكن أن ينتهى به الحال معلقا على مشنقة القادة المهزومين. نجحت حرب أكتوبر فى تحرير جزء من سيناء، لكن الجزء الأكبر من شبه الجزيرة المصرية بقى تحت الاحتلال. بمرور الوقت كانت إسرائيل تتعافى من آثار صدمتها فى أكتوبر، وكانت تعود ثانية للمراوغة، أملا فى مواصلة احتلال ما بقى من سيناء تحت يدها. كان على السادات أن يعمل قبل فوات الأوان لاستثمار نتائج حرب أكتوبر من أجل تحرير بقية سيناء، فكانت مبادرة السلام فى نوفمبر 1979، والتى أثمرت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية بعد ما يقرب من عام ونصف العام من المفاوضات المضنية. كان على السادات، من أجل إنجاح مبادرة السلام، تقديم تنازلات ذات شأن للعدو. زيارة القدس، والخطاب السياسى المصرى الجديد، والالتزام بترتيبات الأمن، كلها مخاطرات كبرى، كان أى واحد منها منفردا كفيلا بالقضاء على السادات، لو فشلت مراهنته على إمكانية استعادة الأرض وتحقيق السلام. مثل احتلال سيناء فى يونيو 1967صدمة للمصريين؛ وكان التصالح مع عدوهم التاريخى فى 1979 صدمة أخرى لهم. كان المصريون ممزقين بين الرغبة فى تحرير الأرض، والتعاطف مع الفلسطينيين والعرب الآخرين، وعدم الارتياح للصلح مع من احتل الأرض وسفك الدماء. فرح المصريون بالسلام وتحرير الأرض، لكن فرحتهم انطوت على تحفظات وشروط أنتجت صيغة السلام البارد الذى ميز علاقات مصر وإسرائيل طوال الأربعين الماضية. لقد أجرينا فى مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية استطلاعات عدة سألنا فيها المصريين عن موقفهم من السلام مع إسرائيل؛ وفى كل مرة طرحنا فيها هذا السؤال حصلنا على الإجابة نفسها. فأغلبية تزيد على ثلاثة أرباع المصريين يتفقون على أن معاهدة السلام مع إسرائيل جيدة لمصر، وهم لهذا يفضلون الإبقاء عليها. فى نفس الوقت فإن نسبة أكبر من المصريين يرفضون تطوير علاقات التعاون فى المجالات المختلفة مع إسرائيل، ويفضلون لو أن العلاقات مع إسرائيل بقيت على حالها، أو حتى تراجعت إلى الوراء، بشرط عدم تعريض السلام للخطر. لقد تم اغتيال الرئيس السادات يوم السادس من أكتوبر عام 1981. حجج عديدة تذرعت بها عصابة الإرهابيين المتأسلمين التى اغتالت السادات، ومن بينها السلام الذى عقده مع إسرائيل. لقد ربح السادات السلام، بعد أن انتصر فى الحرب، لكنه قدم حياته ثمنا لكل ذلك. لا شيء غريب فى هذا رغم الدراما القاسية، فقد خسر رئيس الوزراء الإسرائيلى إسحاق رابين حياته، عام 1995، على يد إرهابى من المتطرفين اليهود بسبب عملية السلام التى بدأها رابين مع الفلسطينيين فى أوسلو. الصراع بين العرب وإسرائيل هو أكثر صراعات زماننا تعقيدا؛ وهو صراع محمل بشحنة عاطفية وعقائدية ثقيلة، وهى الشحنة التى تجعل السلام بالنسبة للبعض على الجانبين مشينا ومخجلا مثله مثل الهزيمة فى الحرب، الأمر الذى أبقى الشرق الأوسط معلقا ومحتجزا فى حالة اللاحرب واللاسلم أغلب الوقت. فتحية للرئيس السادات الذى كان لديه من الشجاعة ما يكفى لإنقاذ مصر من هذا المصير البائس الذى مازال آخرون فى المنطقة يعيشون أسرى له. لمزيد من مقالات د. جمال عبد الجواد