فى المؤتمر الحاشد الذى نظمه المجلس الأعلى للثقافة بمناسبة مئوية ثورة 1919جرت الإشارة عدة مرات إلى الحاجة لإجراء مصالحة تاريخية بين ثورتى 1919 و1952، والمقصود بكلمة مصالحة هو التقييم الموضوعى للأحداث التاريخية، فهل يمكن فى منطقتنا العربية عقد مصالحة بين الحِقب التاريخية المختلفة بل هل يمكن كتابة التاريخ عموما بشكل موضوعي؟ عادة ما يقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون، وإنه كلما بعدنا زمنيا عن بؤرة الأحداث توافرت لنا معلومات تساعدنا على تقييم موضوعى ومتوازن للتطورات التاريخية. وفى منطقتنا العربية التى لا تعرف التسامح مع أى نوع من الاختلافات ناهيكم عن أن تكون هذه الاختلافات سياسية، فإن الأمر لا يتوقف عند إدانة المرحلة المُختَلَف معها لكنه يمتد إلى محاولة إسقاط هذه المرحلة تماما من مسار التاريخ. ولقد عاش جيلى فترة طويلة من الزمان كان يتم فيها طمس صورة الملك فاروق فى أفلام الستينيات وإلى حد ما فى السبعينيات، وكأن طمس صورته يلغى أنه كان حاكما لمصر لنحو خمسة عشر عاما. وتكرر الأمر نفسه بعد ثورة يناير 2011 حيث جرى رفع اسم الرئيس حسنى مبارك حتى من اللُوَح التذكارية للمشروعات التى افتتحها هو بنفسه، وكأن ثلاثين عاما من تاريخ مصر الحديث كان يحكمها الفراغ. وهذا يعنى فى الحد الأدنى أن هناك عدة أجيال سوف تنشأ بذاكرة تاريخية مختزلة. لم تندلع ثورتا 1919 و 1952 فى فراغ، لكن كلا منهما تأثر بما سبقه من تاريخ طويل من النضال السياسى واستفاد من خبرة هذا النضال وبنى عليها. تبنت ثورة 1919 شعار مصر للمصريين الذى نادى به الحزب الوطنى، لكن هذا الشعار الذى رفعه الحزب الوطنى توصل إليه بعد أن نضجت الحركة الوطنية وأعادت تقييم شكل الدولة المصرية المرغوبة من دولة مستقلة عن بريطانيا لكن فى كنف الإمبراطورية العثمانية إلى دولة مستقلة عن كل من بريطانياوتركيا. ومر كفاح ثورة 1919 من أجل جعل مصر خالصة للمصريين بعدة مراحل تطور، ففى مرحلة أولى عرض سعد زغلول على المندوب السامى البريطانى فى نوفمبر 1918 رفع الحماية عن مصر مقابل أن يكون لبريطانيا حق احتلال قناة السويس عند الضرورة وأن تقدم مصر لبريطانيا أيضا ما تحتاجه من الجنود المصريين، وفى مرحلة ثانية رفض سعد زغلول تصريح 28 فبراير 1922 بشروطه الأربعة المعروفة، وفى عام 1936 وقّع مصطفى النحاس المعاهدة التى تمركزت بمقتضاها القوات البريطانية فى قاعدة قناة السويس ثم قام النحاس نفسه بإلغائها بعد ذلك. وأخذت ثورة 1952 بنفس منهج التطور التكتيكى فى التعامل مع قضية استقلال مصر، ففى أكتوبر 1954 تم توقيع اتفاقية الجلاء التى نصت على جلاء القوات البريطانية جلاء تاما عن الأراضى المصرية خلال عشرين شهرا مع تعهد مصر بتقديم تسهيلات لبريطانيا تتضمن استخدام الموانى المصرية فى حال وقوع هجوم مسلح على أى من الدول العربية الموقعة على اتفاقية الدفاع المشترك أو على تركيا. هذه الاتفاقية التى نُظِر إليها باعتبارها تجر مصر إلى سياسة الأحلاف العسكرية سرعان ما تم إلغاؤها مع تعرض مصر للعدوان الثلاثى، وإن كانت سياسات عبد الناصر فى مناصرة الثورة الجزائرية ورفض مشروع بغداد وكسر احتكار السلاح وتأميم قناة السويس كانت جميعها خطوات سابقة على إلغاء اتفاقية الجلاء وإسقاط شبهة ارتباط مصر بسياسة الأحلاف. كان الخط التاريخى إذن فى صعود وكانت مكتسبات كل مرحلة تاريخية تفوق مكتسبات المرحلة السابقة عليها، وكان هناك عاملان أساسيان يتحكمان فى حصيلة المفاوضات مع المحتل البريطانى. العامل الأول داخلى ويتمثل فى المقاومة الوطنية المسلحة ودورها فى دعم موقف المفاوض المصرى، وهكذا عندما ماطلت بريطانيا بعد إلغاء معاهدة 1936 فى إبرام اتفاقية جديدة مع حكومة النحاس اشتعلت المقاومة المسلحة وصولا إلى ذروتها بتحرك الضباط الأحرار فى عام 1952. وعندما ماطلت بريطانيا فى توقيع اتفاقية الجلاء عن مصر شكلت المقاومة الوطنية فى منطقة القناة عنصرا ضاغطا على المفاوض البريطانى. أما العامل الآخر الذى تحكم فى مستوى تقدم المفاوضات المصرية -البريطانية فكان هو الإطار الدولى، ففى النصف الثانى من القرن العشرين كان يتشكل نظام عالمى جديد تتوارى فيه القوى الأوروبية وتغيب عنها الشمس فيما كانت تتبلور قطبية ثنائية أمريكية -سوڤيتية. قضية الاستقلال الوطنى إذن كانت نقطة مشتركة بين الثورتين وكذلك منطق المناورة التكتيكية لتحقيق الاستقلال، لكن هذا لا ينفى أنه كان لكل من الثورتين بؤرة تركيز مختلفة. ركزت ثورة 1919 على إقامة ملكية دستورية وأفرزت دستور 1923 المتقدم جدا بمعايير عشرينيات القرن الماضى ودافعت عنه وفرضت إعادة العمل به. وركزت ثورة 1952 على القضية الاجتماعية وربطتها, فى الميثاق الوطنى ربطا وثيقا بالحفاظ على الاستقلال الوطنى. ولذلك فإن تعليقى الأخير على بعض الآراء التى أبديت فى مؤتمر مئوية ثورة 1919 والتى قللت من البعد الاجتماعى لثورة 1952 على أساس أن كل ما أتت به ثورة 1952 فى مجانية التعليم وأوضاع الفلاح المصرى ..إلخ إنما مبعثه ثورة 1919، تعليقى هو: أولا إن أفكار العدالة الاجتماعية ليست حكرا على أحد، وثانيا إنه وبمنطق التطور التاريخى الذى يتبناه هذا المقال فإن ما حققته ثورة 1952 على المستوى الاجتماعى كان أعمق بما لا يقاس بما حققته ثورة 1919. ومن هذا التمييز الموضوعى بين فلسفتى الثورتين وتجربتيهما يمكن أن نصل إلى مصالحة تاريخية بينهما، وهى مصالحة طال انتظارها. لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد