شكل الإرهاب فى العقدين الأخيرين أحد المصادر الرئيسية لتهديد السلم والأمن الدوليين, وفاقت ضحاياه ضحايا الحروب الأهلية والصراعات والنزاعات المسلحة، والتى شكلت بدورها بيئة مواتية لنمو وصعود التنظيمات الإرهابية كداعش وجبهة النصرة وغيرها من التنظيمات التى استغلت حالة السيولة فى بعض الدولة وضعف الدولة الوطنية لتنمو وتمارس عملياتها الإرهابية سواء فى مناطق الصراع أو خارجها كما حدث فى العمليات التى قام بها داعش فى بعض الدول العربية والأوروبية. ورغم تعدد صور الإرهاب ودوافعها إلا أن أخطر صوره هو الإرهاب المرتبط بأبعاد دينية وعرقية، وهو الأكثر ضراوة لأنه ينطلق من استهداف المدنيين وكل المختلفين دينيا وعرقيا مع هؤلاء الإرهابيين، وهو ما جسدته مجزرة مسجدى مدينة كرايس تشرش بنيوزيلندا وراح ضحيتها 50 شخصا وجرح العشرات، حيث قام القاتل الإرهابى بارتكاب جريمته بدم بارد تحت مبرر استحضار الصراعات الدينية واتخاذ موقف من المسلمين، وهو ما يمثل جرس إنذار للعالم أجمع، خاصة مع صعود حركات اليمين المتطرف فى الغرب، والتى تمثل الوجه الآخر للتنظيمات الدينية المتطرفة كداعش، حيث يعكس كل منهما فكرا عنصريا متشددا تجاه الآخر ويمارس كل أنواع القتل والإرهاب ضده وكل منهما يغذى الطرف الآخر، وكلاهما يقود العالم نحو صراع الأديان والثقافات. فتنظيم داعش الإرهابى استهدف المدنيين فى العديد من الدول الأوروبية، كما استقطب عددا كبيرا من المواطنين الأوروبيين من أصول إسلامية وعربية، وهو ما أدى إلى قيام البعض بالربط بين الإرهاب والمسلمين وبينه وبين الإسلام ذاته، وفى المقابل وظفت الحركات اليمينية المتطرفة فى أوروبا قضية المهاجرين واللاجئين، وأغلبهم من دول عربية وإسلامية، لاعتبارات سياسية والوصول إلى السلطة تحت مبرر خطورة هؤلاء على المجتمع والثقافة الغربية، إضافة إلى التداعيات السلبية ومنافسة البيض فى فرص العمل فى ظل الأزمات الاقتصادية التى تعانيها العديد من الدول الأوروبية. كما استغل كل منهما وسائل التواصل الاجتماعى والإعلام لنشر إيديولوجيته وأفكاره وهو ما زاد من منسوب الكراهية وتهيئة البيئة لارتكاب أعمال العنف والإرهاب، حيث انتقل خطر اليمين المتطرف من الاضطهاد والكراهية والمطالبة بترحيل الأجانب والمهاجرين والخوف من الإسلاموفوبيا، إلى مرحلة العنف والإرهاب كما حدث فى مجزرة نيوزيلندا والتى تدق أبواب الخطر للمجتمع الدولى وخطورة التراخى مع تلك الظاهرة وتداعياتها الخطيرة على الجميع. فرغم أن التنظيمات الإرهابية مثل داعش وغيرها تمثل أقلية محدودة جدا بالنسبة للغالبية الساحقة من المسلمين التى تتبنى الإسلام الوسطى المعتدل، ورغم تعرضها لهزائم كبيرة فى سوريا والعراق، إلا أنها لا تزال تشكل خطرا كبيرا، سواء فى تشويه صورة الإسلام، رغم أن ضحاياها من العرب والمسلمين أكثر من ضحاياها من غير المسلمين، أو صعودها مرة أخرى بعد تحولها لخلايا نائمة، وفى المقابل رغم أن حركات اليمين المتطرف لا تزال أقلية محدودة جدا على هامش المجتمعات الغربية التى تتبنى غالبيتها قيم التسامح والتعايش، إلا أنها تشكل خطورة أيضا فى ارتباطها ببعض السياسيين الذين يستخدمون الأقليات الدينية لأهداف سياسية. إن نار الكراهية والتعصب والتطرف الدينى والعنصرية قد تحرق الجميع إذا ما لم يتم التعامل معها وبجدية من قبل العقلاء فى العالم عبر مواجهة شاملة للظاهرة الإرهابية بكل أبعادها السياسية والدينية والثقافية والفكرية، وهى تحتاج إلى، أولا: تكاتف جميع الدول إلى التعاون لاحتواء موجة الكراهية التى تهب على العالم حاليا وتبريد حالة التوتر التى تسببت فيها أفعال التنظيمات الدينية الإرهابية، وكذلك أعمال اليمين المتطرف، والعمل على عزلهما وحصارهما ونبذهما من قبل تيارات المجتمع الأخرى. وثانيا: اتخاذ خطوات عملية على أرض الواقع تتمثل فى إبرام اتفاقية دولية تحت مظلة الأممالمتحدة لتعريف الظاهرة الإرهابية واتخاذ إجراءات عقابية ضد الدول التى ترعى وتدعم الإرهاب، وتجريم كل أشكال التعصب والعنصرية والاضطهاد ضد الأديان والأقليات بما فيها تجريم معاداة الإسلام والمسلمين وكل أشكال التمييز. وثالثا: قيام كل طرف بمسئولياته فى مواجهة الظاهرة الإرهابية، فعلى المجتمعات الإسلامية يقع عبء التصدى للفكر الدينى المتطرف وتكريس القيم الحقيقية للإسلام التى تقوم على التسامح والاعتدال والتعايش والإعمار ونبذ العنف والإرهاب وخطاب الكراهية، وتأكيد أن هذه الجماعات الإرهابية لا تمثل الإسلام والمسلمين، وعلى المجتمعات الغربية أن تتبنى تشريعات رادعة ضد كراهية الأجانب والأقليات والمختلفين فى العرق والبشرة والدين, وكذلك ضبط فوضى امتلاك السلاح فى تلك المجتمعات، ورابعا: تجفيف بيئة الإرهاب وإزالة جذوره خاصة تسوية الصراعات والنزاعات فى منطقة الشرق الأوسط والمساعدة فى إعادة إعمار تلك الدول، وإعادة اللاجئين والمهاجرين إليها، كذلك التعاون الأمنى والاستخباراتى بين الدول العربية والغربية لمنع تسلل العناصر الإرهابية عبر الحدود. وخامسا: إعادة النظر فى الفضاء الإلكترونى وفرض المزيد من الضوابط على وسائل التواصل الاجتماعى والتى تحولت لمنصة لتغذية ونشر ثقافة وخطاب الكراهية وأصبحت أحد أهم أسلحة التنظيمات الإرهابية والعنصرية فى نشر ثقافتها وجرائمها وتجنيد الكثير من الشباب. وما لم يكن هناك تحرك استباقى بعد مجزرة نيوزيلندا فإن صراعات الأديان والحضارات والثقافات ستكون الخطر الحقيقى القادم الذى سيدفع ثمنه العالم كله. لمزيد من مقالات د. أحمد سيد أحمد