قد لا نتأكد من وجود إفريقيا في منطقة الوعي الاستراتيجي لشعبنا, إلا بعد أن تصبح المعارف الأفريقية ضمن الثقافة اليومية التي يتلقاها الصغار والكبار مثلما تعاملها النخب السياسية والثقافية. وهذا ما لا يبدو متحققا تماما منذ عقود, بسبب توجه الاختيارات إلي مناطق أخري( شمالية بالأساس), ونخشي أن يكون ما يجري لتعديلها بحجة السياسة الإسلامية بعيدا أيضا عن الواقع الافريقي. ولنمضي بسرعة إلي مناطق الوعي الاستراتيجي هذا الذي نتوقعه يوميا عند المواطن الطيب قبل المثقف والخبير, مؤكدين أنها ليست مسألة احتفالات ولا تصريحات عن الاهتمام ولا زيارات هذا أو ذاك من المسئولين. ولكنها مسألة وجود اليومي الأفريقي في حياتنا اليومية لينعكس ذلك في النهاية علي الممارسة اليومية للحكم, والمنظمات المدنية والسياسية. وأتصور أن القارئ المصري لا يمكن أن يعيش كأفريقي أيضا إلا إذا مضي وعيه متضمنا الحدث اليومي الأفريقي في أكبر وأصغر الأمور وفي الصحافة والإذاعة والمدرسة مثلما يفعل مع الأحداث الأوروبية وغيرها ليتساءل بنفسه عن الدلالات وحقيقة الانتماء ويطالب بالمشاركة أو الاحتجاج ويضمنها البرامج والسياسات... ولنجرب هنا كيف نقرأ بعض هذه الأحداث الافريقية. هذا حدث وفاة رئيس وزراء دولة قريبة مثل إثيوبيا. وقد تلقيت عشرات الاتصالات ساعتها تسأل فقط وبسرعة عن أثر وفاة المذكور علي علاقة مصر بأثيوبيا, وأزمة مياه النيل! لن يعرف المواطن المصري كيف يتولي رئيس الوزراء السلطات رغم وجود الرئيس الرمزي, في دستور صارم القواعد, يتيح شكلا للديمقراطية وشكلا للاستبداد!, يعطي الولايات سلطات فيدرالية واسعة تجعل الصومالي يعايش الأمهري إلي جانب التجريني والأورمو.. وهي تجربة تدرسها معظم الدول الافريقية. وأن زيناوي الذي جاء منتصرا بقوات التجرينيين التحررية1991 حول فرص انفراده بالسلطة إلي فتح إثيوبيا علي العالم لتصبح من أكبر جاذبي الاستثمارات الصينية والهندية والتركية والخليجية والغربية طبعا, ومن هنا جاء طموحه حول مشروعات النهضة أو الألفية!.. لا تتعرض ثقافتنا السياسية لكل ذلك وشرح أبعادها للمواطن الذي يجب أن تتفهم بلاده مثل هذا التطور بدل البكاء علي المياه المحجوزة..! وكأن ذلك هو كل القضية...ماذا لو كان حل الأزمة في التوصل إلي منتج مشترك لهذه الاستثمارات في المنطقة بتعاون مصري عربي ممكن, وسياسات تكاملية؟ هذا ما سيظل موضع بحثنا حتي بعد وفاة الزعيم.. وثمة سؤال جديد: هل ينفصل التصور الاستراتيجي حول حوض النيل, عن استراتيجيات أخري حول منافسة القوي الإقليمية في القارة مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا؟ وتمدد الأخيرة مثلا علي أوسع نطاق في القارة, كنموذج لاستثمار كل مصادر القوة المالية والسياسية, لمد نفوذها الاقتصادي إلي أنحاء إفريقيا.. هل نعرض ذلك علي المواطن المصري في أخبار يومية تثير فيه خيالا واسعا عن إفريقيا وما يجري في أنحائها عبر رؤية شمولية للأحداث لن تجدي معها مذهبية ضيقة بين سنة وشيعة أو غير ذلك من التقسيمات؟ وهناك سؤال عن الرؤي الضيقة أو الشاملة: هل حالة الصومال هي مجرد حالة الشقيق الملغوم بالمتطرفين الشبان؟ أم أنها ساحة يتيح فيها الغرب تدخلات بالوكالة من بقية دول حوض النيل في أرض هي عضو بجامعة الدول العربية المشغولة بالتدخل الدولي في سوريا وقبلها ليبيا.؟ إن لمصر تاريخا ومصالح في الصومال المهددة, وقربها إريتريا بموقعها الاستراتيجي علي البحر الأحمر وهناك جزر القمر وجنوب الجزيرة العربية بما يشكل دائما اهتمامات حيوية وخطيرة للسياسة المصرية لو ارتبط بها المواطن وقرأ وقائعها اليومية التي تتيح له التوجه الفعلي إلي هذه المنطقة الحيوية. دعونا نأخذ مثالا اجتماعيا بعيدا عن السياسة لنري كيف يغرقنا ذلك في عمق السياسة الحيوية. ولنأخذ المثال من لحظة اختيار رئاسة مفوضية الاتحاد الأفريقي في الشهر الماضي. ولنراجع كيف مضي اختيار السيدة زوما وزيرة الخارجية والداخلية والصحة السابقة لجنوب أفريقيا لهذا المنصب في ثقافتنا اليومية, وما صلته التي قامت في تحليلاتنا مع وجود شرط50% من هيئة الاتحاد الأفريقي من النساء, مع افتقاد وجود مصرية أو مصري هناك؟ بل ووجود فعلي لنسبة30% من أعضاء برلمان جنوب أفريقيا من النساء,. هل ذكر أحد هناك خروج ذلك علي الشريعة أو بحث الأمر في لجانه الدستورية كتشكيك أفريقي في القيم الديمقراطية؟! هنا يثور السؤال الأساسي حول تصور المصري الحديث للعالم, وقد قضت علي تصوره المنشود سياسات الصمت المدمر عن أحداث العالم من قبل نظام سابق لم يحاكمه أحد حتي الآن علي هذه السياسة لعزل مصر عما بنته, ثم ها نحن نواجه باحتمالات سياسة تلوح بفضاءات لا وجود لها في الكتل الدولية, باسم العالمية الإسلامية, وهي ليست دائرة فاعلة ولا دول ذات حضور أو خطاب سياسي دولي, بينما نحن نغازل الجماهير بأفكار قد تحبسها في العزلة مرة أخري بعد أن عرفت طريقها للثورة, ويمكن تثوير طريقها إلي العالم الحديث. الكثير يمكن أن يقال عن قراءة جديدة لأفريقيا.. ليس فقط عبر كتب هي لا تتوافر أصلا, أو مثقفين أفارقة لا نستقبلهم أو نسافر إليهم, أو مهرجانات لا تستدعي هذا الصنف من الفنون رغم شهرتها العالمية; أو مراجعة برامج تعليمية لا تتم بالنسبة لتاريخنا نفسه... وبمثل هذا الواقع.. لا يتوفر الاختيار الأفريقي ضمن اختياراتنا الاستراتيجية...