يبوح الأبٌ المهمُوم بمستقبل ابنتيه، (كل واحدة منهما لها رأي، وهذا أشجعه وأنميه فيهما من الصغر، لكنى مؤخرًا بدأت ألحظ عليهما تطرفًا)، بالمناسبة الأب يتحدث عن ابنتيه اللتين فى الثانوى والإعدادي، ورغم تدين الأسرة إلا أن أيًا منهما لم ترتد الحجاب، أى تطرف ذلك الذى يخشاه الأب؟! لكنه يواصل شارحًا (أصبح لكلٍ منهما اهتماماتها، وتدريجيًا تحولت الاهتمامات إلى أولويات وانحيازات تنعكس على كل رأى يتوافق أو يتعارض، ليكون الخيار الدائم إما تأييدا مطلقا أو نفيا تاما)، بينما تقول الأم بوَجَعِ القلب على صغيرها الذى لم يكمل سنواته التسع ويدرس بإحدى المدارس الأزهرية الخاصة الدولية (منذ تَفتَّح وعيُ الولد بدأ يُتَرْجِم ما يتلقاه من تعليمات فى المدرسة تصنيفًا لحلال وحرام ومسلم وغير مسلم، ثم تطورت تصنيفاته وبدأت تُصب على المحيط فهذه غير محجبة إذن هى مسيحية، وهذا يرتدى سلسلة إذن هو يرتكب فعلا محرمًا، وذاك يُربى فى بيته كلبا إذن بيته نجس ولا تدخله الملائكة)، وبين نموذجى الأب والأم يمكن أن نُعدِدْ عشرات الأمثلة والنماذج المحيطة بنا يومياً، والتى تُمثل الحاضنة الدائمة لصناعة (التطرف) ولإشاعة معايير النفى وعدم التعايش كأسس لبناء القادم، والتى تَسعى لإنتاج (إنسان) العالم الجديد وفق معايير بدائية لا تحكمها أسس التعايش الدينية ولا تُطَوِر تواصلها أسباب جمال فنية، إنها مواطن التطرف التى نمت فى المسافة الفاصلة بين ما يجب أن يكون من تَنَبُه جمعى وبين ما هو كائن من مشاريع استثمار التفتيت الإنساني، ولا يشغل المهْمومُ بالمستقبل تصنيف (الكفر)، فالقضية ليست نفيًا لوجود الموجود، وإنما نفى لغاية إعمار الحياة المقصودة بوجود الخَلّق، والمنصوص عليها فى قول الله جلَ فى علاه « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»، وهذا الخطاب المتعدى من آمن أو أسلم إلى عموم الناس يُلخص غاية الأديان المُستقاة من معين واحد، فيه خالق يحض على ترقى الإنسان بما يؤهل للتعايش فى مواجهة بدائية تنفيه أو نفعية تستثمر هذا النفي، وهذا الفهم الواعى بغاية الدين، يُمَثِل الضامن لحفظ الترقى الإنسانى فى مواجهة كل مستثمرى (الرِدَة البدائية) بإشاعة (الكفر). هذا الفهم الواعى المتنبه لخصه الإمام الأكبر فضيلة الشيخ أحمد الطيب على منصة (مؤتمر الأخوة الإنسانية بالإمارات) حيث وجه نداء مبادرته التى تشارك فيها معه قداسة البابا فرانسيس (دعوة لنشرِ ثقافة السلام واحترام الغير وتحقيق الرفاهية للبشريَّةِ جمعاء، بديلًا من ثقافة الكراهية والظلم والعُنف والدِّماء، ولتطالب قادة العالَم وصُنَّاع السياسات، ومَن بأيديهم مصائر الشعوب وموازين القُوى العسكريَّة والاقتصادية، تطالبهم بالتدخل الفورى لوقف نزيف الدِّماء، وإزهاق الأرواح البريئة، ووضع نهايةٍ فورية لما تشهده من صراعات وفِتَن وحروب عبثيَّة أوشكت أن تعود بنا إلى تراجع حضارى بائس ينذر باندلاع حرب عالمية ثالثة). وقف الإمام (الطيب) على أعتاب عام عنوانه (التسامح)، على مئذنة الدين المُنْتصر للحياة لا المحارب لها، والدين الفاعل فى البناء الإنسانى لا المُستثمِر له ليبنى مُلْكًا أو يُمَكِن لتنظيم ديني، والدين المُطَوِّر لأدوات التعايش لا المُؤَصِّل لمعاول التصنيف والشقاق ونفى الآخر، إنه الدين الذى يقود إلى تَقْوَى تُقَوِّى أواصر التواصل الإنسانى عبادة وتفَعِّل الشعائر محبة تسع الإنسان والحيوان والنبات والجماد، ليكون أثرها الإنسانى فى الدنيا (حُسنُ المعاملة) وحساب تقاها عند الله وحده. إن مَهَمَّة الحراسة للأوطان فى هذه المرحلة من عمر الإنسانية، تتجاوز حدود الساهرين أمنًا على ثغور الوطن حدودًا ومؤسسات، ويغدو من خيانة العموم لجندِهم الساهر أن يُسْلِموا الجُنْدَ بالتخلى عن فرض جمعى عنوانه (إعمار الحياة)، وما من سبيل لها إلا عبر جناحى الدين والفن باعتبارهما ركيزتى تطور الإنسان بعد عبوره أطوار بدائيته الأولي، وحيث ان هذه الأسطر تستهدف الجناح الأول فيكفى أن نلوذ بدفع الإيمان الواعى الذى أطلقه الشيخ (الطيب) فى مؤتمر الأخوة موقنين (بأن الله لم يخلق الناس ليُقْتَلوا أو يُعذَّبوا أو يُضيَّق عليهم فى حياتهم ومعاشهم، والله عز وجل فى غنى عمَّن يدعو إليه بإزهاق الأرواح أو يُرهب الآخرين باسمه)، وهكذا يقينٌ حال تفعيله عنوانَ بحث فى شتى المجالات والأطر يمكن أن تترجمه أنشطة قادرة على تحصين إنسان وطننا من كل (كفر) بالحياة كَوْنُه الشر المُحدِق بكل إنسان وبالتأكيد مستثمروه كثر، وعلى الخير أن يدعم بناء الإنسان بكل طيب لتستمر الحياة، وفى أصل رسالات الأديان أسس تعايش قادرة على رأب صدوع البناء الإنسانى إذا ما تحرر إنتاج فقه الواقع من أسر مستثمريه ومن قيود النقل التى تُفْقِر منتجيه، إنه نِداءٌ غوثٍ إنسانيٌ على أعتاب عام عنوانه العالمى (التسامح) وعلى كل واعٍ للأذان أن يُلبى. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى