تلقيت دعوة للمشاركة بمحاضرة باللغة الفرنسية فى مقر اليونسكو بباريس. كان اسم الدعوة غريباً: «ليلة الفلسفة». هى إذن ليست مؤتمراً علمياً يعقد كما تعودنا فى إحدى الجامعات ويناقش المشاركون فيه موضوعاً محدداً من زوايا مختلفة ويكون فيه المتحدثون والمستمعون من أهل الاختصاص. المدهش فى الأمر أن «اليلة الفلسفة» هى بمثابة عيد شعبي للاحتفال بالفلسفة. تشمل الليلة خمسين محاضرة واثنى عشر عرضاً فنياً وأربع موائد مستديرة، وتبدأ فى الثامنة مساء لتنتهى فى السابعة صباحاً.وحينما توجهت إلى مقر اليونسكو وكان موعد محاضرتى فى العاشرة مساء وجدت جميع أروقة اليونسكو وقاعاته وممراته مملوءة بأعداد هائلة من الشباب من الجنسين، وفى أيديهم البرنامج، يختارون عنوان المحاضرة التى يحبون الاستماع إليها. تقول اليونسكو فى التقديم الذى صاغته لهذه الاحتفالية: بعد نجاح الدورة الأولى فى نوفمبر 2016 تعود ليلة الفلسفة إلى اليونسكو. العالم كله مدعو للاحتفال والمشاركة فى التفلسف فى الليلة من 16 إلى 17 نوفمبر. لكم أن تختاروا بين محاضرة لفيلسوف قادم من بيرو أو من الهند أو من مصر أو من باريس؟ مشروبا ومأدبة؟ عرضا لفنان قادم من البرازيل أو من اليونان أو من النرويج؟ المشاركة فى ندوة الحق فى الرد؟ الاستماع لتسجيل للبرنامج الإذاعي طرق الفلسفة؟ الرقص والغناء؟ واستمر الجمهور الكبير ساهراً حتى الصباح. المحاضرات يلقيها مشتغلون بالفلسفة ولكن أمام جمهور عام ومتنوع، وكانت تتميز بأنها تجمع بين الموضوعات التقليدية للفلسفة ومشكلات الناس الحالية. ويمكننا تبين ذلك من عناوين المحاضرات الواردة فى البرنامج: على أى صورة نريد للعلم أن يكون؟ ماذا يمكن للفلسفة أن تفعل ضد التطرف؟ ماالذى تفتقد إليه مدارسنا؟ نساء عصر التنوير. الواقع أمام الشاشة. لماذا لا يعد نيتشة مسئولا عن انتخاب دونالد ترامب؟ هل يمكن للفن أن يغير العالم؟ وكان عنوان محاضرتى هو: «كونية الخطاب الفلسفى ومهامه الجديدة». وبدأت المحاضرة بالإشارة إلى خاصية تميز الخطاب الفلسفى وهى أنه موجه إلى جميع الثقافات. ونجد اليوم أعمال قدامي الفلاسفة والمعاصرين منهم موجودة بجميع اللغات ويتم تدريسها في جامعات كل البلدان. وهذا هو معنى كونية الخطاب الفلسفى. ولقد كانت مساهمة الفلاسفة العرب حاسمة فى ترسيخ هذه الكونية فى التاريخ، فقد ظلت الفلسفة لعدة قرون فى أثينا والإسكندرية علماً يونانياً فقط، وحينما انتقلت الفلسفة من اليونانية إلى الثقافة العربية تمت مهاجمتها منذ البداية. وكانت حجج الهجوم قوية، منها أن المنطق هو بمثابة قواعد النحو للغة اليونانية، أما اللغة العربية فلها نحوها الخاص، ويصبح النحو اليونانى بالنسبة لها لا جدوى منه. ومن بين الحجج أيضاً أن الفلسفة لا يمكن أن تصل بنا إلى حقيقة علمية يكون هناك إجماع عليها كما هو حال الهندسة والفيزياء والبصريات، فالفلاسفة يتناقضون فيما بينهم ويذهبون في كل اتجاه، وأخيراً، وكانت تلك هى أقوى الحجج، الاختلاف فى العقائد بين العرب واليونان، فالعرب بفضل الإسلام يؤمنون بوحدانية الله وبخلق العالم فى الزمان وبالبعث ويوم الحساب، وهي عقائد لا وجود لها في الثقافة اليونانية في الزمن الذي عاش فيه فلاسفتهم. انبرى الفلاسفة العرب للدفاع عن شرعية وجود الفلسفة وأهميتها في الثقافة العربية. ولهذا نجد فى أغلب رسائلهم جزءاً مخصصاً لبيان جدوى الفلسفة. فالكندى يرى أن الحق لا وطن له، ولاتستطيع أمة أو جيل أن يزعم لنفسه احتكار الحقيقة لكنها بناء مشترك بين الأمم والأجيال، ويرى الفارابى أن المنطق ليس خاصاً باللغة اليونانية لكنه يقدم للعقل الإنساني خطوات تسمح له بتقدير مدى اليقين فى أحكامه. كما أن الفلاسفة، في نظره، لا يتناقضون إلا فى الظاهر. ويبين ابن سينا أن مقولات أرسطو هي تصنيف دقيق للموجودات. وخصص ابن رشد كتابه «فصل المقال» فى بيان عدم تعارض الفلسفة مع الإيمان. انتقلت الفلسفة بعد ذلك من العرب إلى العالم اللاتينى فى أوروبا فى العصور الوسطى، وأصبح من حق ديكارت أن يقول: إننى أكتب حتى للمسلمين, مؤكداً بذلك كونية الخطاب الفلسفى. ولكن توجد سمة أخرى للفلسفة تتعارض مع صفة الكونية، وهى أن الفلسفة تنشأ بالضرورة داخل ثقافة معينة وتكتب بلغة خاصة. وبالتالى تحمل سمات هذه الثقافة. فنحن نميز بين الفلسفة الألمانية وميلها إلى التجريد، والفلسفة الإنجليزية وتميزها الدقة والتجريبية، واللمسة الأدبية فى الفلسفة الفرنسية. بالرغم من هذه الاختلافات إلا أن أعمال هؤلاء الفلاسفة انتقلت إلى جميع الثقافات لأنهم رغم السمات القومية لكل فلسفة كانوا مهمومين بتوجيه خطابهم الفلسفى إلى الإنسان أينما كان، بصرف النظر عن ثقافته. فإذا كان العرب قد بادروا، منذ أكثر من ألف عام بجعل الخطاب الفلسفى خطاباً كونياً، فإن التطور الحالى للمعرفة البشرية يجعل كونية الخطاب الفلسفى ضرورة ملحة أكثر من ذى قبل. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث