نجحت كاميرات الصحافة فى التقاط صورة لمستشار الأمن القومى الأمريكى وهو يمسك بورقة مكتوب عليها: خمسة آلاف جندى إلى كولومبيا. إذن.. فإنَّ ما قاله الرئيس الأمريكى ترامب عام 2017، ثم أعاده عام 2018 من أنّ كل الخيارات مطروحة.. كل الخيارات على الطاولة. لم يكن مجرد تهديدٍ عام. أصبحت دولة فنزويلا التى تقلُّ مساحتها قليلًا عن المليون كيلومتر مربع، ويزيد عدد سكانها قليلًا على الثلاثين مليون نسمة.. ساحة لحرب فكريّة مروّعة: اليسار فى السلطة واليمين فى المعارضة.. تؤيد روسيا اليسار الحاكم وتؤيد أمريكا اليمين المعارض. تعترف موسكو بالرئيس نيكولاس مادورو رئيسًا لفنزويلا، وتعترف واشنطن بزعيم المعارضة خوان غوايدو رئيسًا للبلاد. قامت روسيا بإرسال طائرات تى يو 160 المعروفة باسم البجعة البيضاء إلى فنزويلا.. وهى طائرات يمكنها حمل قنابل نووية، واتصل الرئيس ترامب بزعيم المعارضة واعترف به رئيسًا، بينما انشق الملحق العسكرى الفنزويلى فى واشنطن وانحاز إلى المعارضة. تقول واشنطن إن روسيا نقلت أطنان الذهب الفنزويلى إليها.. وتقول موسكو إن أمريكا تريد الاستيلاء على آبار النفط فى فنزويلا. تقف الصين ودول أخرى مع روسيا إلى جوار الرئيس الحاكم، وتقف البرازيل ودول أخرى مع أمريكا إلى جوار الرئيس المعارض. أصبحنا إزاء رئيسيْن لا رئيس واحد.. أصبحت الدولة مؤهلة إذن للانقسام.. إنها البيئة المناسبة تمامًا لحربٍ أهليّة. إن اقتصاد فنزويلا يتهاوى كل دقيقة، ولكنّه قد ينتهى تمامًا، وربما تمتد الاضطرابات أو تنشب الحرب الأهلية لعدة سنوات.. لن يبقى شىء فى فنزويلا وقتها.. هنا يمكن الحديث عن المرحلة التالية: مرحلة إعادة الإعمار بأموال الفنزويليين من جديد. هذه هى خريطة الطريق إذن: المشهد الأول.. اليسار الحاكم يترك الاقتصاد ويركِّز فى الخطابة السياسية.. واليمين المعارض يتحالف مع الخارج لإسقاط اليسار الحاكم. المشهد الثاني.. الاقتصاد يتراجع.. التضخّم يرتفع.. الأسعار تشتعل.. الفقراء يعانون.. المعارضة تفوز فى الانتخابات. المشهد الثالث.. اليسار يسيطر على الحكومة واليمين يسيطر على البرلمان. اليسار يستمر فى الخطابة وواشنطن تواصل دعم اليمين.. اليسار لا يقدِّر أن الأمر خطير وأنه لا يمكن أن تستمر الأمور هكذا. المشهد الرابع.. رئيس البرلمان الذى يقود اليمين يعلن نفسه رئيسًا للجمهورية، وبعد دقائق الرئيس الأمريكى يعترف بالرئيس الجديد، وبعد ثوانٍ دول أمريكا الجنوبية تعترف بالاعتراف الأمريكي، وبعد قليل.. الملحق العسكرى الفنزويلى فى واشنطن يعلن الانشقاق ويبدأ حركة إرباك القوات المسلحة. المشهد الخامس.. الرئيس الحاكم يهدد باعتقال الرئيس المُعلن.. والرئيس المعلن يهدد باعتقال الرئيس الحاكم. المشهد السادس.. انقسامات مدنية وعسكرية.. ومزيد من الجوع والخوف.. وشبح حرب أهلية. المشهد السابع.. غزو أمريكى لفنزويلا وتأييد المعارضة والملايين من أنصارها للغزو.. والمطالبة ببقاء دائم للقوات الأمريكية لضمان وإيقاف الدماء، وعدم عودة الوضع السابق. المشهد الثامن.. شركات أمريكية وروسية وصينية وبرازيلية وإسبانية.. تتنافس على تعاقدات إعادة الإعمار فى البلاد. هذه ببساطة خريطة الطريق.. ولن يتغير فيها الكثير.. إذا تم القضاء على الرئيس مادورو وتولّى جوايدو السلطة.. حيث ستقوم المعارضة اليسارية بإدارة المعارك مع السلطة اليمينية الجديدة.. ثم يتوالى نفس الطريق. ثمّة معضلات تدعو للفزع فى هذه الأزمة.. المعضلة الأولي.. أن كشف المؤامرات ومعرفة المصير الصعب والسيناريوهات السيئة.. لا يعنى بالضرورة القدرة على إيقافها. وهنا المعرفة وحدها لا تفيد. وهذا تغيّر كبير فى السياسة الدولية.. حيث كان التاريخ السياسى للعالم ممتلئًا بالمؤامرات السريّة، التى لو تمَّ اكتشافها لتغيّر التاريخ تمامًا. أمّا الآن.. فإن معظم السيناريوهات علنيّة.. ومعرفة أبعاد المؤامرات لا يغيّر كثيرًا فى مجريات الأمور.. حيث تبدو الدول ذات الانقسام الفكرى الحادّ.. وكأنها تُساق إلى قدرٍ محتوم، وليس بإمكان أحد إيقاف انحدار العربة من سطح الجبل. المعضلة الثانية.. أن بعض اليسار قام بإهانة قيم العدالة والكرامة تحت أقدام الشعارات الزائفة.. ثم إنّ هذا البعض فى حالة اختيار بين بقاء الضجيج الأيديولوجى الذى يمثله وبين بقاء الوطن.. لاختار الضجيج على الوطن. المعضلة الثالثة.. الاقتصاد لا يمكنه الانتظار.. إن فنزويلا واحدة من أغنى دول العالم: أكبر احتياطى من النفط فى العالم، وأكبر احتياطى من الذهب فى العالم، ورابع أكبر احتياطى من الغاز فى العالم.. واحتياطات ضخمة من الماس والألومنيوم والحديد.. فضلًا عن كميات هائلة من المياه العذبة. إنّ فشل فنزويلا يحتاج إلى معجزة. لكن هذه المعجزة تحققت ثم أصبحت معجزة مركبة.. لقد وصل التضخم فى فنزويلا الثرية إلى 140% عام 2015، وفى عام 2016 بدأ انهيار العملة الفنزويلية أكثر فأكثر، وفى عام 2018 وصل التضخم إلى نسبة لا يمكن فهمها ولا تخيّلها.. حيث زاد معدل التضخم عن مليونين فى المائة! لم تقف الكارثة عند ذلك الحدّ.. إذ يتوقع صندوق النقد الدولى أن يصل التضخم نهاية العام الجارى 2019 إلى «10» ملايين فى المائة! لا طعام ولا أمن.. غادر الحدود خارج البلاد أكثر من ثلاثة ملايين نسمة.. أصبحت بلاد النفط والذهب بلاد الفقر والحزن. المعضلة الرابعة.. عقاب الشعب باسم عقاب السلطة. إن آلية العقوبات الأمريكية تذهب دومًا إلى خنق السلطة بخنق الاقتصاد. وفى حالة فنزويلا، منعت أمريكا أرباح النفط الفنزويلية من الوصول للحكومة، كما أنها تنوى منع استيراد النفط الفنزويلي.. لإنهاك قوة السلطة. لكن الواقع أن الشعب هو الذى يعانى الذبول والجفاف.. هو الذى يعانى الجوع والمرض. سيقولون فى أروقة الأممالمتحدة.. تم فرض عقوبات على النظام، لكن الحقيقة التى يعرفها الجميع.. تم فرض عقوبات على الشعب. كان الرئيس مادورو سائق حافلة بارعاً قبل أن يصبح نقابيًّا ونائبًا ووزيرًا ورئيسًا.. لكن القيادة فى 2019 ليست كما كانت على امتداد حياته. إن الدروس من أزمة فنزويلا لا تنتهي.. كيف تتحوّل الثروة إلى لعنة.. بدلًا من أن تنتشل حقول الغاز الناس من الفقر يغرق الملايين فى آبار النفط. إن الثروة الحقيقية هى العقل وليس الحقل.. العقل السياسى هو ثروة كبري.. وكل ثروات الأرض من دون عقل سياسي.. هى والعدم سواء. لمزيد من مقالات أحمد المسلمانى