للوهلة الأولى قد تعيد الأزمة السياسية فى فنزويلا إلى أذهاننا أجواء الحرب الباردة فى القرن الماضى بين أكبر قوتين عالميا الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي، فمنذ إعلان رئيس البرلمان الفنزويلى المعارض خوان جوايدو نفسه رئيسا بالوكالة للبلاد أمام الآلاف من مؤيديه فى كراكاس العاصمة فى مواجهة الرئيس الحالى نيكولاس مادورو، الذى أعيد انتخابه حديثا لفترة رئاسية جديدة ، أيدت موسكو سلطة الرئيس الحالى مقابل واشنطن التى أعلنت تأييدها الفورى لزعيم المعارضة واعترفت به رسميا. وأحدثت الأزمة ،التى من المفترض أنها داخلية ، انقساما دوليا بين القوى العظمى العالمية، حيث انضم الأوروبيون وحلفاء واشنطن لجوايدو، فيما أيد الصينيون والدول الموالية للروس سلطة الرئيس مادورو، ومن هنا جاءت التكهنات بأن حربا باردة وشيكة، إلا أن الأحداث الميدانية تشير إلى أن «الحرب الباردة» هذه المرة مختلفة إلى حد كبير فالمعطيات والظروف والتحديات والأيدولوجيات هيا المحرك الرئيسى للمشهد هنا خاصة عندما يتعلق الأمر بالمصالح الاقتصادية البحتة. الملفات الشائكة التى تعارضت فيها هذه القوى حتى وقتنا هذا أصبحت عديدة ومتشعبة وعالقة بدء من الأزمة الأوكرانية، وملف كوريا الشمالية، ومرورا بصراع النفوذ فى الشرق الأوسط، إلا أن «الأزمة الفنزويلية» مختلفة عن الجميع وبنظرة سريعة للمواقف التى اتخذتها القوى العالمية تجاه ما يحدث فى كراكاس يمكننا قراءة المشهد بوضوح، والبداية بالولاياتالمتحدة التى كان رد فعلها إزاء إعلان خوان جوايدو نفسه رئيسا لفنزويلا «الأكثر حدة» مقارنة بمواقف بقية الأطراف، وذلك يكشف لنا حقيقة القلق الأمريكى من الرئيس الحالى وإضراره بمصالحها بشكل مباشر فالبلد الذى يمتلك أكبر احتياطى نفطى مؤكد فى العالم، ورابع دولة تزود الولاياتالمتحدة بالنفط، تناهض واشنطن وانخفضت صادرتها بنسبة 60% منذ سنة 1997، وبالتالى يرغب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى استعادة السيطرة على هذا الملف، بدلا من رؤية فنزويلا تواصل تنويع شركائها التجاريين، وتتوجه نحو الصينوروسيا. أما الأوروبيون فقد اتخذوا موقف أكثر حذر وتحفظ ، فالاتحاد الأوروبى لا يملك سلطة الاعتراف بالحكومات، فى حين لا يرغب بعض أعضائه فى قطع العلاقات مع نظام مادورو. وشهدت العلاقات الفنزويلية الأوروبية توترات منذ سنوات، خاصة فى علاقتها بإسبانيا، التى دعمت محاولة الانقلاب ضد تشافيز سنة 2002. أما روسيا، فالمعضلة بالنسبة لها اقتصادية بقدر ما هى سياسة، خاصة أن البلاد من أبرز الدائنين الرئيسيين لكاراكاس، ومع كل أزمة ديون وتعثرات جديدة، تمكنت موسكو من التوصل إلى حلول ترضيها، عادة ما تكون فى شكل شحنات نفط فنزويلى أو استثمارات روسية، حيث تمتلك روسيا حصص كبيرة من خمسة حقول نفط رئيسية، بالإضافة إلى نسبة كبيرة من الغاز الطبيعى الفنزويلي. أم الوافد الجديد كقوة عالمية عظمى فهى «بكين» التى لن تتخلى بسهولة عن موقفها تجاه منافس لها على الصعيد الجيوسياسي، إضافة إلى إبداء الصين اهتماما بأمريكا اللاتينية بشكل عام انطلاقا من مواردها الطبيعية، وقد أنفقت كم كبير من الأموال فى سبيل تحقيق تواجدها الفعلي، ولن تتخلى عنه بسهولة.