بصراحة، لم يعجبنى ماكرون. أعرف أن زيارته مصر كانت مثمرة جدا، وإيجابية، بشكل عام، ولكن أداء الرجل نفسه لا يقنعني، لا الآن، ولا حتى منذ أن جاء للسلطة عام 2017. لم يعجبنى أداؤه فى أزمة السترات الصفراء، ولم ترضنى أيضا تصريحاته فى مصر، ولست متفائلا كثيرا بنجاحه فى الحفاظ على قوة العلاقات التاريخية والخاصة جدا بين القاهرة وباريس، والتى حافظ عليها أسلافه على مر عقود، وربما يكون الأمل قويا فيمن حوله فى الحفاظ على متانة هذه العلاقات! قد يكون ماكرون براجماتيا، و«بانكير» صاحب عقلية مصرفية تدفعه دائما إلى حساب كل شىء بالورقة والقلم، ولكنى لم أكن أتصور أنه يتأثر بالضغوط من حوله إلى هذه الدرجة، فضلا عن نقص الخبرة السياسية لديه، والأسوأ من ذلك ما أظهره من حب شديد للبقاء فى منصبه! فى أزمة السترات الصفراء، قدم الرئيس الفرنسى الشاب أسوأ مثال لأسلوب إدارة أزمة، بل وصنع سابقة خطيرة فى التاريخ، بالاستجابة والرضوخ لمطالب متظاهرين لجأوا للعنف والإجرام وقلة الأدب، فكتب بذلك، صفحة النهاية فى تاريخ شيء يسمى التظاهر السلمي، وستدفع الديمقراطية الغربية ثمن ذلك مستقبلا. خلال الأزمة، بدا ماكرون عنيدا، وأكد أنه لن يتراجع عن قراراته الاقتصادية، وتحت ضغط المظاهرات وأعمال السلب والنهب وإهانة الدولة الفرنسية، توقع منه الفرنسيون أن يستخدم قوة القانون لوقف هذه المسخرة، ولكنه لم يفعل، واختار الحفاظ على منصبه بأى ثمن، فتنازل للمتظاهرين، مرة، تعقبها أخرى، لدرجة أنه قدم لهم وعودا اقتصادية تحفظ عليها الاتحاد الأوروبي، وكانت النتيجة أن المظاهرات لم تتوقف، ولم تهدأ، وبدأت تطالب برحيله هو شخصيا، ثم نزل أصحاب السترات الحمراء للشارع لدعمه! أما فى مصر، التى زارها ماكرون للمرة الأولى، فبعد أن كان يرفض إعطاء محاضرات لأحد فيها بشأن أوضاعها الداخلية، لأنه بدوره لا يقبل محاضرات من أحد حول بلاده، رضخ الرئيس الشاب لضغوط واستفزازات النشطاء والمنظمات الحقوقية والإعلام من أجل تسميم العلاقات مع مصر، فتسرع فى الإدلاء بتصريحات غير موفقة للصحفيين فى اليوم الأول من الزيارة، وقبل ساعات من لقائه الرئيس السيسى فى الاتحادية، سعيا لإرضاء هذه الأصوات، ولو على حساب مصالح فرنسا التى يفترض أنها تحتفل هذا العام مع مصر بعام الثقافة، ثم كانت محاضرته فى المؤتمر الصحفى مع الرئيس، والتى حولها الرئيس إلى محاضرة حقيقية لضيفه وكتيبة الصحفيين الذين جاءوا معه بأسئلة سابقة التجهيز! نعم، من حق ماكرون التعبير عن رأيه فى أى موضوع، ولكن ما حدث أن ماكرون ترك كل جوانب التوافق مع القاهرة، واحتياجه لها فى ملفات المنطقة والهجرة وإفريقيا وحرب الإرهاب، وتفرغ للحديث المريب إياه عن انتهاكات حقوق الإنسان المزعومة فى مصر، لمجرد أنه قرأ كام تقرير من إياهم حول هذا الأمر! ماكرون قال وفقا لما بثته «رويترز» و«بلومبيرج» إن الاستقرار فى مصر مهدد بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وقمع المعارضين السياسيين، وقال أيضا إن النظام الحالى فى مصر أكثر قمعا من نظام مبارك، لأن الاعتقالات امتدت لتشمل معارضين ديمقراطيين لا يهددون الاستقرار! المثير للدهشة أن هذه التصريحات تم بثها مساء الأحد فى التوقيت نفسه الذى كان فيه «مسيو» ماكرون وزوجته ينعمان بالأمن والاستقرار خلال فسحتهما فى أبو سمبل أقصى جنوب مصر، وهو مكان لم يكن ماكرون ولا غيره يحلم بزيارته ولا الاقتراب منه فى عهد الانفلات الأمنى وقطع الطرق وطرد السائحين من فنادقهم إبان عصر الحريات الذى تحسر عليه! قد يقول قائل إن قضية حقوق الإنسان مجرد قضية خلافية واحدة وسط بحر من التفاهمات والتوافقات بين البلدين، ولكن لم يكن يصح أبدا أن يعلى رئيس دولة بحجم فرنسا نقطة خلاف واحدة كهذه قائمة على أكاذيب ويمنحها تلك الأولوية والاهتمام، على باقى القضايا، خوفا على شكله فى الداخل، خاصة أنه يعرف جيدا أنه فى زيارة دولة «تستثمر فى الاستقرار»، وسبق أن رفضت تماما تدخل أى دولة أخرى، كبرت أم صغرت، فى شئونها، وترفض أيضا التدخل فى شئون غيرها، كما أن هذا الأسلوب تعارض مع شعار «فرنسا عادت» الذى وضعته فرنسا عنوانا لسياساتها الخارجية، وبالذات تجاه إفريقيا، منذ دخول ماكرون إلى الإليزيه. وستبقى علاقات مصر فرنسا أقوى بكثير من حسابات ماكرون الخاصة! لمزيد من مقالات ◀ هانى عسل