الحديث عن المواطنة لم ينقطع خلال السنوات الماضية، تزيد كثافته فى مناسبات بعضها يتعلق بالتعايش بين المواطنين المختلفين، وبعضها فى حالة حدوث أزمات، يلجأ فيها المجتمع إلى الاحتماء بهذا المفهوم. ولكن ثبت من الأحداث المتباينة أن المواطنة تحتاج إلى ثقافة، أو هى فى ذاتها ثقافة، وليست مجرد مفهوم اكاديمى، أو صياغات قانونية وسياسية بعيدة عن حياة المواطنين. إذا لم تتحول المواطنة إلى ثقافة يعيشها من نطلق عليهم مواطنين، فإنها تصبح مجرد شعار أو مصطلح غامض. وفى أحيان كثيرة يعود الاخفاق فى تحقيق المواطنة ذاتها إلى معوقات ثقافية، وهو ما يتطلب أن يكون دائما الحديث عن الثقافة حاضرا. ويظل السؤال كيف نخلق ثقافة مساندة للمواطنة؟ أولا: القانون الذى يقر حقوق وواجبات المواطنين يشكل فى ذاته ثقافة للمواطنة. يتعلم الأفراد احترام حقوق المواطنة من القانون ذاته. عندما يعطى القانون حقوقا للمرأة، تتحول بمرور الوقت إلى ثقافة فى المجتمع. واذا طبق القانون فى اتجاه تعزيز حرية أداء الشعائر الدينية يصبح ثقافة، وبالتالى فإن القانون أداة أساسية فى صنع الثقافة طالما أحسن صنع التشريع، وأحسن تطبيقه. القانون مدخل مهم للتغيير الثقافى. من خلال النص القانونى، متى توفرت الرغبة فى التطبيق الجاد له، يكتسب الناس الحقوق والمهارات اللازمة للمواطنة. علاقة المواطن بالمجال العام هى تطبيق جيد للقانون. شارع يتسم بالانتظام، احترام المارة وحركة السيارات، والرصيف الملائم الذى يستخدمه المارة دون الافتئات عليه. مبان منسقة لا تعرف العشوائية، والقبح. طريق صالح للمارة، يخلو من عوامل الإثارة والضغط العصبى والنفسى، يتمتع فيه الناس بالأمان، وبخاصة الفئات المستضعفة مثل المرأة والطفل، وغيرهما. هذه جميعا تعبير عن التزام قانونى يتحول بمرور الزمن إلى ثقافة. ثانيا: التأكيد على مشاركة كل المواطنين يصنع ثقافة. المشاركة ثقافة قبل أن تكون آليات، وقواعد، ونظم. كلما زادت معدلات المشاركة فى المجتمع، وألتقى المواطنون معا فى مشروعات ومبادرات للخير العام، يكتسبون ثقافة المواطنة، ويؤسسون شبكات امان اجتماعى تساعدهم على احتواء وحل الازمات التى تواجههم. ثالثا: التربية المدنية، التكوين الذهنى والسلوكى، فيما يطلق عليه المنهج الخفى فى المدرسة- أى الحياة المدرسية بكل جوانبها، حيث يتعلم الطفل منذ نعومة أظافره قيم المشاركة، والتطوع، والتضحية، وبناء علاقات تعاون مع الآخرين، والتسامح مع المختلفين فى النوع أو الدين أو الوضع الاجتماعى، ويتشكل لديه ضمير مجتمعى نابض بالرغبة فى الانفتاح على الآخرين. وتؤدى التربية المدنية الى تشكيل وجدان الشخص ليصبح مواطنا متفاعلا، لا ينكفئ إلى الانتماءات الأولية، ولا يتعصب لها. رابعا: إعلام داعم للمواطنة، يهتم بالمواطن، ويتفاعل معه، ويسطر همومه، ويحمل صوته إلى دوائر التأثير فى المجتمع. يأتى ذلك من خلال تسليط الضوء على مشكلات المواطن الحقيقية، خاصة خارج العاصمة، والكف عن نشر كل ما يسيء إليه فكرا أو معتقدا أو وضعا اجتماعيا، بما يجعله دائما يشعر بأن الإعلام يمثله. خامسا: بيروقراطية محايدة، يعد ذلك هاجساً قديمًا عند ماكس فيبر الذى تحدث عن الحياد، أى البيروقراطية التى لا تتحيز لفئة على حساب أخرى، ولا تحابى أحدا على حساب الآخرين، بل تقدم الخدمة العامة لكل المواطنين دون تمييز. الإشكالية أن البيروقراطية تعنى أفراداً، وهؤلاء لهم تحيزاتهم، التى ينبغى أن نقلل منها، ونعلى من شأن سياسات المواطنة، ومدونات السلوك التى تحكم تعامل البيروقراطية مع المواطنين. سادسا: سياسات عامة تخدم الفئات العريضة من المجتمع، خاصة المهمشة، والتى لا تمتلك صوتا يمكنها من التنافس مع الفئات الأكثر تنظيما، وإنفاقا، واستخداما لإمكانات المجتمع للحصول على امتيازات خاصة. السياسات العامة هى مرآة العدالة الاجتماعية فى أى مجتمع سواء كان على صعيد الضرائب، الميزانيات، الإسكان، التعليم، كلما نحت فى اتجاه تمكين المواطن كلما كانت أكثر تعبيرا عن المواطنة. ما أريد قوله إن المواطنة ثقافة تسهم روافد كثيرة فى صنعها. وما يحدث فى بعض المجتمعات، مثلما هى الحال فى المنيا، والأمر موضوع أمام اللجنة العليا لمواجهة المشكلات الطائفية، ليس إلا نتاجاً لعوامل كثيرة متشابكة، ويصعب اختزاله فى عامل واحد. دائرة متعددة الحلقات: القانون، المشاركة، التربية المدنية، الاعلام، البيروقراطية المحايدة، السياسات العامة، هذه جميعا رءوس موضوعات ينبغى أن تتجه إليها اهتمام اللجنة الوليدة، التى يراهن عليها المجتمع فى القضاء على أحد أمراض المجتمع المزمنة، وطالما أن هذه اللجنة سوف تتجه إلى توسيع تخوم نظرتها إلى هذه الظاهرة، يبدو التداخل بين عدد من القضايا ضرورة، واستدعاء الخبراء الذين يستطيعون أن يقدموا حلولا للمشكلات حتميًا، وذلك حتى لا نكتفى بترديد نفس الكلام، والخروج بنفس التوصيات، فى حين أن المسألة تحتاج إلى خطة شاملة. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى