قرأت ما كتبته الأستاذة «أمينة النقاش» فى ملحق الأهرام من عدد الجمعة الماضى، وإذ أشكرها على هذه الكتابة الممتلئة محبة لرفيق حياتها الكاتب الكبير «صلاح عيسى» فى ذكرى رحيله الأولى، لأتمنى أن تواصل الكتابة عنه، لتقدم لنا الجوانب الإنسانية الأخرى التى لا نعرفها فى حياة هذا الكاتب الساحر الذى ملأ حياتنا الأدبية والسياسية بمداخلاته المشاغبة التى تشتبك مع التاريخ فى حوارها مع الآنى لتجمل المستقبل. ................................................................ غير أنه قد ورد فى حديثها كلام عن مهاجمة البعض له حين أسندت إليه رئاسة تحرير القاهرة، وعن الدور التثقيفى للجريدة، وعلاقتها بمجلة «القاهرة» التى كان يرأس تحريرها الدكتور «غالى شكرى»، وهو ما يمكننى أن أعقب عليه فى هذه المقالة السريعة، بحكم كونى كنت فى هيئة تحرير المجلة قبل إغلاقها الدراماتيكى، وعاصرت الأحداث التى حولت المجلة إلى جريدة، وهو ما حاولت أن تنفيه الأستاذة «أمينة» بقولها على لسان «فاروق حسنى» إنه هو الذى اختار اسمها، وأنه لا علاقة بين المجلة والجريدة. صدر العدد الأول من مجلة القاهرة فى يناير من عام 1985، برئاسة تحرير الأستاذ «عبد الرحمن فهمى»، وكانت أسبوعية تصدر صباح الثلاثاء من كل أسبوع، بالقطع الكبير الذى يشبه الجريدة، وكان كثير من القراء يتعاملون معها على أنها جريدة وليست مجلة، فهى إضافة لقطعها الكبير الذى لم يعهده القراء فى المجلات، قليلة الصفحات نسبيا، فى حدود 40 صفحة، ومدبسة بدبوسين فى صفحتى الدوبل، والصفحة الواحدة يمكنها أن تضم أكثر من مقالة لأكثر من كاتب، وكان الإخراج الصحفى لها كأنه لجريدة بالفعل، أما السياسة التحريرية لها فقد كانت هى الأخرى مكملة لهذه الصفة، فهى تتحدث فى الثقافة العامة، وتقدم حوارات مع الممثلين والرياضيين، إلى جانب زوايا نوعية للشعر، والرواية كانت تنشر فيها مسلسلة، واستمرت تصدر بهذه الصيغة حتى أبريل 1986، بعد أن تحولت من أسبوعية إلى شهرية، وأسندت رئاسة تحريرها للدكتور «إبراهيم حمادة»، لتصبح فى عهده مجلة أدبية متخصصة، واستمرت إلى مايو من عام 1992، حيث أسندت رئاسة تحريرها للدكتور «غالى شكرى»، وتحولت إلى مجلة فكرية. فى فترة الدكتور «غالى شكرى»، تصدرت المجلة المشهد الثقافى مصريا وعربيا، وكانت أعدادها تنفد فور صدورها، وكانت الخطابات تأتينا من توزيع الأهرام مطالبة بزيادة الأعداد المطبوعة للمجلة، فنحولها للدكتور «سمير سرحان»، فيؤشر عليها بالرفض، لأن المجلة مدعومة، وزيادة الأعداد ستزيد من الخسائر، وقد حدث حدث استثنائى فى هذه الفترة لأول مرة فى تاريخ المجلات الأدبية، فقد قررنا أن نطبع ثلاثة أعداد فى مجلد واحد من الأعداد التى لاحظنا أنها الأكثر طلبا. ولما أصيب الدكتور «غالى شكرى» بجلطة فى المخ، نتج عنها شلل نصفى لازمه حتى رحيله، نشب صراع لوراثة المجلة. بدا الأمر للجميع على أنه محاولة لاغتيال أهم مجلة فكرية فى مصر والوطن العربى، ولعل هذا يفسر غضب المثقفين الكبير الذى صاحب قبول «صلاح عيسى» لرئاسة تحرير المجلة بعد تحويلها إلى جريدة، وبعد تغيير خطها من الدخول فى المناطق الشائكة، إلى الحديث عن إنجازات وزير الثقافة. لم يكن طموح «فاروق حسنى» واقفا عند حد إصدار جريدة، وإنما كان يخطط لإطلاق قناة فضائية تغطى كافة أنشطة وزارة الثقافة، وتتغنى بالإنجازات، ولكى نتفهم الأمر على حقيقته، علينا أن نعود إلى الإحساس الذى كان ملازما للمثقفين فى هذه الفترة، منتصف التسعينيات، حتى نكون منصفين فى الحكم على الأطراف كلها، وزير يحاول استقطاب المثقفين لحظيرته، مستخدما فى ذلك ذهب المعز، يلوّح به أمام العيون كلها، وكان كثير من المثقفين يهرولون، وقليل منهم كانوا يرفضون، وكان «صلاح عيسى» بتاريخه النضالى الكبير، ويساريته المعروفة، ومعارضته الذائعة لنظام الحكم، أبعد ما يكون عن أن يتم استقطابه، من هنا كانت هذه الهجمة الكبيرة التى صاحبت قبوله للمنصب، والتى تنظر لها الآن الأستاذة «أمينة النقاش» باندهاش كبير، فإذا أضفنا لهذا الأمر، أن قبوله للمنصب قد جاء بعد إبعاد «رجاء النقاش» الذى تم تكليفه بشكل رسمى، وتم استبعاده بشكل هزلى، لوجدنا ألف مبرر ومبرر لهذا الغضب على «صلاح عيسى». لقد تم تكليف «رجاء النقاش» برئاسة تحرير المجلة، وبدأ بالفعل فى الإعداد لها، بل واختار مجلس تحريرها، وكنت أنا فى هذا المجلس، واقترحت على «رجاء النقاش» بابا خاصا بالسيرة الذاتية، أسند مهمة إشرافه لى بالفعل، وأصدرنا عددين تجريبيين، نالا استحسان كل من طالعهما، وفى أثناء الإعداد للعدد الأول، فوجئنا بأن وزير الثقافة قد أسند رئاسة تحرير جريدة القاهرة للكاتب «صلاح عيسى»، دون حتى إخطار «رجاء النقاش» بالأمر، فأسقط فى يده، كما أسقط فى يدنا جميعا، زاد من سخونة الأمر، أن «رجاء النقاش» نسيب ل «صلاح عيسى». تقول الأستاذة «أمينة النقاش»: (فى حوار معه وردا على أسئلتى قال لى الفنان فاروق حسنى، إنه هو من اختار اسم «القاهرة» للجريدة، وأنه لا علاقة لها بالمجلة التى كان يصدرها «غالى شكرى»). هذا الكلام مناف تماما للحقيقة، فالحقيقة أنه وجد الترخيص الأساسى لمجلة «القاهرة» يقول إنها أسبوعية، وتصدر عن وزارة الثقافة، فاستخدمه، لم يؤلف سيادته اسم الجريدة كما يقول، ويمكننا بكل بساطة العودة إلى أعداد الجريدة الأولى، وسنكتشف أنه مكتوب فى ترويستها الأساسية، (الإصدار الثانى)، وهذا يعنى أن الإصدار الأول هو الذى كان يرأس تحريره الدكتور «غالى شكرى»، وأنه ثمة علاقة بين المجلة والجريدة، لا كما يقول الوزير الأسبق، كما أنه يحق للأستاذة «أمينة النقاش»، وبكل سهولة، بحكم عملها الصحفى، أن تطالع أوراق الجريدة الرسمية فى المجلس الأعلى للصحافة، لتعرف حقيقة الأمر. لقد طُرحت أسماء كثيرة لتولى رئاسة المجلة بعد الدكتور «غالى شكرى»، منها «أنيس منصور»، الذى جلست إليه فى مكتبه بالأهرام، وحدثنى عن طموحه فى إصدار مجلة كمجلة «الجيل» التى كان يصدرها من قبل، الأمر الذى أصابنى بالفزع، فصارحته بأن مجلة القاهرة لها خط فكرى ينبغى عدم التخلى عنه، بل يمكن استثماره، خاصة أنه مفكر وفيلسوف، لكنه كان يرى أن المجلة التى يقل توزيعها عن مائة ألف نسخة، لا تعد مجلة، أما «رجاء النقاش» فقد كان فاهما لطبيعة المجلة، وكان واحدا من كبار صناع الثقافة فى مصر والوطن العربى، وتجربتاه فى مجلتى الهلال والدوحة، تؤكدان هذه المقدرة الكبيرة على تقديم مجلة متميزة، ولم يكن أحد على الإطلاق معترضا عليه، الجميع كان سعيدا ومنتظرا منه مجلة فريدة، كان هو بالفعل قادرا على إصدارها. نحن الآن نقرأ الواقع، ولكن ينبغى أن تكون عيوننا على الماضى، لأن ما قدمه «صلاح عيسى» فى جريدة القاهرة، عمل بالفعل يستحق الإعجاب الكبير، وأنا واحد من معجبيه الكبار، وأراه واحدا من أكبر كتابنا، هذا بغض النظر عن ظروف وملابسات قبوله لرئاسة تحرير القاهرة.