فى مواجهة الاحتلال تبقى للفلسطينيين وللعرب بضع أوراق محدودة تتيح للمفاوض أن يناور ويتشبث بالحقوق المسلوبة أو على الأقل تمكنه من تقليل الخسائر. مناسبة الحديث هى تصريحات حديثة لبنيامين نيتانياهو نقلتها عنه يديعوت أحرونوت تحدث فيها عن فتح أكثر من دولة عربية لمسارات جديدة أمام شركة الطيران الإسرائيلى بالتحالف مع شركة طيران هندى، ثم عن مصالح مع دول عربية لا تربط التطبيع بمواقف الفلسطينيين. نحن أمام متغير لافت وضاغط يتمثل فى سعى إسرائيل لتطويق دول الطوق، فإذا كان الفلسطينيون فى حالة اشتباك دائم -سواء فى الضفة أو غزة- نفسى ومادى مع الجانب الإسرائيلى، وهو ما يتم ترجمته بين الحين والآخر لمواجهات مع المقاومة، فإن الأمر نفسه ينطبق على لبنان وسوريا، وفى ظل سلام بارد مع مصر، وربما الأردن إلى حد كبير. دوما كانت مصر ودول الطوق ترفض ربط التطبيع بعلاقات اقتصادية أو أمنية وتم التوضيح مرارا بأن المطلوب هو تحقيق تقدم بشأن حقوق الفلسطينيين فى القدس أو تشكيل حكومة موسعة تضم اليسار وتقتنص فرصة إبرام سلام شامل وعادل مع الفلسطينيين على غرار السلام بين مصر وإسرائيل, وفى هذا تطبيق عملى جديد لمبدأ الأرض مقابل السلام، المرتكز على قرارات الشرعية الدولية، وكذلك مبادرة السلام العربية. لقد قامت إسرائيل بشكل مغاير لقيام الدول الطبيعية، ثم سعت للتوسع بجدارة القوة العسكرية والسيطرة على شعب آخر، وحاليا إسرائيل تتجاهل المطالب المشروعة للشعب الفلسطينى بتقرير مصيره، واقامة دولة قابلة للحياة على أرضه، وتهرب للأمام ساعية لحصار الحصار، حين تجد دول المواجهة بحكم المسئولية والتاريخ والجغرافيا بالطبع، نفسها على هذا النحو فى وضعية تم تجاوزها. بعد أن تم تجاوز رفض العرب للتفاوض العلنى مع إسرائيل، ظهر أن تل أبيب ترفض التفاوض الجماعى مع العرب، فبعد الجلسة البروتوكولية فى مؤتمر مدريد انفردت بكل طرف على حدة، وهو ما أثمر فقط عن اتفاق أوسلو بعيدا عن المؤتمر وأعماله. وفى الوقت الذى تفرغ فيه إسرائيل أوسلو من مضمونها تنتزع مميزات مبادرة السلام العربية دون أن تقدم استحقاقات فى المقابل، بل ودون أن توافق على مناقشتها أو قبولها كإطار عام يمكن تعديله. إسرائيل بسعيها لإسقاط ورقة التطبيع تسقط أيضا مبدأ الأرض مقابل السلام، وتطلق رصاصة الرحمة على المبادرة العربية وربما العمل العربى المشترك، لكنه فى جميع الأحوال تحرك يبدأ من ثانيا وليس من أولا، أى أنه تحرك غير منطقى ولا يرتكز على أرض صلبة. فأولا جرى احتلال أرض شعب آخر وانتهاك القوانين الدولية وارتكاب جرائم حرب، ولا يمكن على هذا القفز إلى ثانيا بإقامة علاقات طيبة والتعاون طالما لم يتم تصويب المسار، وكف الأذى، ورد الحقوق. والمخطط الإسرائيلى الجديد يواجه فى المقابل رفضا شعبيا واسعا، لا يمكن الاصطدام به، خاصة فى ظل عدوان متكرر على الشعب الفلسطينى وعلى مقدرات الشعب اللبنانى. التحول النوعى فى السياسة الإسرائيلية بدأ فى فترة تولى اليمينى المتشدد أفيجدور ليبرمان وزارة الخارجية، حيث رفضت مصر والأردن التعاون مع وزارة الخارجية فى عهده كرد فعل على تصريحاته ومواقفه غير المسئولة، فتمثل الرد الإسرائيلى بتعزيز العلاقات مع دول بعيدة وصغيرة مثل ميكرونيزيا فى المحيط الهادى، والاكوادور فى أمريكا اللاتينية ثم اقترب طوق التطبيع من خلال علاقات تجارية وأمنية مع تركيا وإثيوبيا وتوجو، وجنوب السودان. ووصل لآفاق جديدة بالوصول لأكثر من بقعة فى المشرق العربى بجانب تشاد. والتعامل الفطن مع هذا التحول أو التطويق يحتاج بشكل عاجل إلي: -استفادة قصوى من خبرات متراكمة للدبلوماسية المصرية التى تعى الأطماع الإسرائيلية وتتصدى لها. - تنسيق مع الجانب الفلسطينى المضار الأكبر من هذا التطويق. -تواصل بناء مع أطراف دولية عددها بلغة المصالح وعلى رأسها الدب الروسى الذى وصل للمياه الدافئة، ويمكن أن يكون عنصر توازن فى المعادلة إذا ما اقتنع بأن هذا يحقق مكاسب اقتصادية له (للفلسطينيين كما للسوريين واللبنانيين حقول غاز يمكن للشركات الروسية أن تحصل على نصيب منها)، أو مصالح استراتيجية (بتخفيف الضغط على روسيا بعد وصول الغرب إلى أوكرانيا وتوصله لتسوية مع كوريا الشمالية). ويتبقى سؤال هل حان الوقت لنبذ الخلافات الفلسطينية الفلسطينية وإنقاذ ما يمكن انقاذه بقيادة موحدة متفقة على برنامج عمل وبدائل ومسارات تحرك وفقا للسيناريوهات المختلفة تقنع الشعب الفلسطينى المنهك بأن تضحياته ومواكب الشهداء لم تذهب سدي؟ هل سيقر مسئول فلسطينى بأن تكريس الانقسام سيقضى فى النهاية على أى مكتسبات، ويسهل من مهمة إسرائيل تطويق المفاوض وانتزاع ورقة التطبيع مجانا من يديه؟ وهل سيكون ردنا تقليديا إزاء سعى إسرائيل لإسقاط مبدأ الأرض مقابل السلام؟ لمزيد من مقالات د. أحمد فؤاد أنور