قطارات العالم جميعها فى جعبته، لكن أين محطته؟ حين تفرغ الأرصفة والشوارع يزدحم قلبه بها. يشتم رائحة طيفها كما تشتم الأرض رائحة المطر. كلما بحث عن هويته فى داخله ولا يجدها، يذهب إلى أوراقه التى أورثها ذاكرته. ........................... عندما تكون أنت النص، يتقد جمرك الراقد تحت الرماد.. عندما تكون أنت النص، يوقظ القلم فيك كل الحكايا. كم من الأوراق استنزفت؟ متى يفرغ منك قلمي؟ متى ينتهى أسرُك لكلماتي؟.. أسئلة كثيرة تدور فى رأس الشاعر والطبيب النفسى إيلى منجوبى، المصرى اليهودى، المقيم حاليا فى بروكسل. حنين.. خلّف من ورائه مئات القصائد التى كتبها فى عشق الوطن الأم، كما تمخّض عنه ثلاثة دواوين شعرية صدرت باللغة الفرنسية: «مسارات الشعر/ من هيلوبوليس إلى شيكاجو» عبر بروكسل، و«مصر، إلهام شعرى» و«تأملات شعرية». كانت نكبته بالرحيل نهائيا- من مصر عام 1958 نزيفا أكبر من أن تحتويه الأوراق. لكنه ظلّ يكتب لها، لعل الكتابة تعيدها إليه. متأثرا بجراح الواقع، يبكى الوطن الغائب، ونزوح اليهود والمعاناة التى أجبرت هذه الطائفة على المغادرة فى ظروف صعبة، غير أنها تمكنت من التعامل مع هذا النزوح بشجاعة ومرونة، يقول هنا منجوبى: كان والدى مدير الرقابة المالية فى بنك مصر، لكن الظروف التى شهدتها البلاد عقب 23 يوليو اضطرته إلى تقديم استقالته واتخاذ قرار الهجرة. إلّا أن حكومة عبدالناصر رفضت السماح لى بالمغادرة عام 1956 بجواز سفر مصرى، تحت ذريعة كاذبة بأننا لسنا مصريين. فقام والدى برفع دعوى قضائية ضد الحكومة، وكان الحكم لمصالحتى. أعقب ذلك سفرى عام 1958 - بجواز السفر المصري- إلى بروكسل حيث درست الطب هناك. ثم هاجرت أسرتى بالكامل عام 1966 إلى شيكاجو حيث استقروا هناك. أبداً لم ينس مصر.. أبداً تبقى محفورةً فى أعماقه.. وهو يجول.. يسْبُرُ أغوارَ قلبها.. دون أن يلمح أدنى أثر له!.. أو يلقى طريقاً يعترف أنّه قد سلكه!.. أبداً لم يكرهها رغم اليأس الذى ألقته فيه. «عشت عشرين سنة فى مصر. هناك ذكريات منها تلاحقنى.. أصوات، ضجيج، روائح الطعام والزهور.. زياراتى كل يوم أحد لبيت أجدادى فى العباسية.. محلات هانو وجاتينيو.. العطلات والصيف فى المندرة.. قصر الملك فاروق بالمنتزه، مرح وانطلاق الشباب.. حياة بكاملها تركت علامة لا تغيب عن ذاكرتى. هذه هى معالمى مع الماضى وليس من الممكن بالنسبة لى أن أتجاهلها». انخراطه فى المجتمع الغربى وتأثره بكتابات فيكتور هوجو، وجاك بريفيرت، وبول إيلوارد، وجيوم أبولينير، وآلان فينكيلكراوت.. لم يجعله ينسى اللغة العربية التى مازال يتكلمها ويفهمها جيدا. كما مازالت تطربه أغانى أسمهان، وفريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ.. شعرا وموسيقى. لكن يبقى السؤال: هل أراد الطبيب المصرى حين تحول إلى الشعر أن ينفض من أيديه زمنا عاشه حين كتبه على الورق؟ أم كان يحكم على نفسه بالسكنى فيه؟ أو ربما سعى إلى ترميم زمنا ما فى داخله لم تكن له ذات يوم مقومات الصمود أمام متغيرات سياسية عصفت بالوطن؟ يجيب منجوبى: فى عالم مادى مثل عالمنا اليوم لم يعد هناك اهتمام كبير بالشعر، إلّا أنه مازال يستهوى عواطفنا، فهو يعلمنا أن نعرف أنفسنا بشكل أفضل، ويجعلنا نحلم بعالم يسوده السلام.. إن المحبة والتسامح والوفاء تكفى لمواجهة العنف المكروه الذى يغرقنا فى ظلمات اليأس. عابر من خلف الزمن، مازال مسكون بذلك الزمن الأجمل والأحلى. يناجى مصر من عمق الروح بأنين الفراق الذى لا يذوب.. يناجى عمرا لا يخلو من الحبور. يفتش عن مفردات الإنسانية والتسامح التى عرفها فيها. حين تتأمل كتاباته، تستوقفك بعض الكلمات التى يرددها كثيرا، مثل (النيل) فهو بالنسبة له النهر المهيب مع الطمية الخصبة التى أعطت الحياة للحضارة الفرعونية، وهو الذى جعل العالم يحلم حتى هذا الوقت، ولا يزال يفاجئنا بثراء ثقافته وآثاره.. و(هليوبوليس) مدينة طفولته، منزل والده فى 4 شارع خليفة الهادى، مدرسة الليسيه الفرنسية، قصر البارون إمبان، دور السينما: نورماندى، روكسى، بالاس.. نادى هليوليدو، الكنيسة البازيليكية.. روائح الياسمين التى كان يتنفسها فى طريقه إلى المدرسة.. رفاق الدرب وضحكات الأصدقاء: طارق، ومارسيل و«على». هذا الأخير هو «على ماهر» السفير المصرى السابق لدى فرنسا. كم كانت فاجعة رحيله كبيرة فى نفس منجوبى! لقد جمعتهما صداقة عمر منذ أن كانا زميلين فى مدرسة الليسيه وجارين فى هليوبوليس، فكتب عنه قصيدة رثاء بعنوان «عزيزى على، وداع» فى 23 نوفمبر 2016. الراحلون شموس فى مسيرتنا، لذا بات وجه صديقه المسلم المسافر للبعيد يجسد فى نفسه زمن البراءة والنفوس الطاهرة. هكذا العمر يرحل.. وتتعتق أوراق دفاتره.. على أمل أن تكتبه مصر فى دفتر الشعر سطرا. لم يهزمه ليل المنفى.. فهو ينبت مع الزهر، يهطل مع المطر، يشرق مع الشمس.. على أهبة الحب ينتظر.يوما ما سيمر القطار.. وينزل منه نبيذ وسلال الورد.. ووجه بلاده المسافر.