فيما تستعد كوريا الجنوبية لاستقبال الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي استهل جولته الآسيوية الحالية بزيارة كازاخستان، بينما تشكل اليابان محطته الثانية في هذه الجولة، فإن ثمة حاجة لإطلالة على ثقافة تلك الدولة التي باتت نموذجا مهما "للدولة التنموية". ومع اتجاه مصر الواضح للتواصل مع مشاريع النهضة الآسيوية لعل من المناسب نقل رؤى ثقافية آسيوية لمصر والمصريين من بينها الثقافة الكورية الجنوبية التي شكلت قاعدة راسخة لتجربة تنموية بدأت بقوة منذ عام 1979 في عهد بارك تشونج هي. وفي مضمار التعاون بين الشعوب والعلاقات الدولية قد يكون من المناسب استدعاء رؤية شاعرة لأحد أعلام الشعر الكوري الجنوبي المعاصر، وهو الشاعر "كو اون"، الذي حذر من خطر فقدان البدائل والافتقار لباقة الحلول المتنوعة فقال: "كنت أجدف بمجداف وحيد حتى فقدته"!. وفي كوريا الجنوبية ثمة مؤسسات تنموية تعبر عن رؤية تعلي من أهمية تقديم البدائل لصانع القرار التنموي مثل: "معهد التنمية الكوري"، و"المعهد الكوري المتقدم للعلوم والتكنولوجيا"، فيما تقدم أيضا دروسا ناجحة على مضمار الإصلاح الإداري. وهذه الدولة ذات الجبال الخضراء والثلجية والهواء المحمل بعبير المروج وعطر الحدائق وعبق الشاي، تحظى أيضا بنسيم دافيء ممزوج بروائح الفاكهة والبهار وتعرف السكينة في رحاب تعاليم بوذا وطقوس الرهبان وكلها مشاهد تتجلى في قصائد الشاعر الكوري الجنوبي "كو اون" الذي ولد عام 1933 في جونسان بمقاطعة تشولا الشمالية لعائلة من الفلاحين وعاش لفترة ككاهن بوذي. ويذهب دارسون للأدب الكوري الجنوبي إلى أن الشاعر "كو اون" الذي نشر أولى قصائده عام 1958 أي قبل ثلاثة أعوام من الخطة الخمسية الأولى في بلاده، يعد علامة على الشعر الكوري الجنوبي المعاصر حتى أن البعض يصفه ب"أمير شعراء كوريا الجنوبية"، أما هو فقد قال عن نفسه إنه "مفتون بآثار الخطى الروحانية التي تركها الشعراء السابقون"، معتبرا أن "أحلام هؤلاء الشعراء لا تزال تضيء". وللأحلام أهمية وأي أهمية في نظر هذا الشاعر الكبير الذي يغوص أحيانا في أعماق الحكايات القديمة والتراث الدال، مثلما حكى- وهو الذي حاول الانتحار يوما ما- عن "شاعر استعار من حلمه خمس ريشات للكتابة كل منها ذات لون مختلف وكتب بها قصائده ثم أعاد الريشات لأصحابها خلال الحلم فلم يأته إلهامها أبدا، وحين وجد نفسه بلا قصيدة لم يجد سببا لتستمر حياته فرحل عن عالمنا"!. وبلغة أقرب لليقين .. يقول "كو اون": "عدد من قصائدي دون شك كانت الأحلام أجنتها"، وهو يواصل طرح الأسئلة الكبرى في الشعر والإبداع مثل: "ماذا يعني الشعر في مواجهة العدوان والقهر والفقر"؟، و"ماذا يعني الشعر في عالم ملؤه الجشع والجهل والمرض"؟!. وهذا الشاعر حياته الثقافية والروحية ثرية حقا، فبعد أن أصبح كاهنا بوذيا من طائفة "الزن" على مدى عقد ودع عالم الرهبنة ليعود للعالم الدنيوي مجددا ويصدر أول كتبه عام 1960، فيما عرف أيضا الحياة داخل السجون ووراء القضبان بعدما بات صوت النضال من أجل الحرية والديمقراطية في سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين. وواقع الحال إن الثقافة البوذية والكونفوتشيوسية لها تأثيرها الكبير على أخلاقيات العمل ومظاهر الانضباط المثيرة للإعجاب بهذا الشعب الذي أنجب مبدعين في قيمة وقامة الشاعر كو اون مع ترسيخ تلك الثقافة أيضا لقيم التسامح والأمانة والنزاهة. ويتجاوز عدد الكتب التي أصدرها "كو اون" ال150 كتابًا تتنوع ما بين دواوين لقصائده وروايات وسيرة ذاتية وطروحات ومقالات نقدية، فضلًا عن ترجمات لبعض أعلام الشعر الكوري دون أن ينسى الكتابة للأطفال حتى أضحى اسم "كو اون" ضمن الأسماء التي تتردد كل عام كمرشحين لجائزة نوبل في الآداب. ول"كو اون" الذي يغني للنجوم في أحلامه، ملحمة من سبعة أجزاء عن كفاح بلاده من أجل الاستقلال، كما أنه صاحب قصائد احتجاجية ومواقف مؤيدة لانتفاضات طلابية في سبعينيات القرن العشرين، فيما لم يتزوج إلا بعد آن بلغ من العمر الخمسين عاما ليعرف نوعا من الحياة الأسرية مع زوجته أستاذة الأدب الإنجليزي "سانج وا لي" التي يعيش معها وابنتهما في منطقة "انسونج" جنوب العاصمة الكورية الجنوبية سول. ويبدو أن هذه الزيجة كانت حسنة الطالع من أوجه متعددة، حيث دخل الشاعر "كو اون" بعد الزواج مرحلة من الإنتاج الإبداعي الغزير الذي يصفه بعض النقاد "بمرحلة الانفجار الشعري"، حتى "بات يكتب الشعر كما يتنفس"، وذاعت شهرته في الغرب وأصبح أستاذا زائرا في جامعات أمريكية شهيرة مثل هارفارد وبيركلي كما انتخب رئيسا لاتحاد كتاب الأدب الوطني في كوريا الجنوبية. كما أن بلاده عرفت طريقها للتنمية والنمو في ظل شراكة مثمرة بين الحكومة وأجهزة الخدمة المدنية والقطاع الخاص وحضور قوي لمؤسسات الفكر وتوجه يعلي من أهمية ترويج الصادرات مع تصاعد أهمية الطبقة الوسطى، فيما بات "النمو الاقتصادي أساسا لشرعية النظام السياسي"، وتعاظمت أهمية قيم ثقافية مثل الابتكار والتجديد والنظرة المستقبلية. ومن إبداعات "كو اون" في الشعر: "إحساس عالم آخر" عام 1960، و"قصائد على شاطيء البحر" عام 1966، و"نيرفانا" عام 1969، و"الذهاب إلى عزلة جبلية" عام 1977، و"طريق في ساعة مبكرة من الصباح"، عام 1978، و"نجوم الوطن" عام 1984، و"ندى الصباح" عام 1990، و"زهور اللحظة" عام 2001، و"أغنيات أخيرة" عام 2002. و"كو اون" من الشعراء الكبار حقا المهمومين بالسؤال القديم والكبير والمطروح على توالي العصور وكر الأيام: "ما هى القصيدة؟!"، فيما كان قد توقف ليتأمل مليا مغزى خبر تنامى لسمعه عن العثور على أكاليل زهور على رأس الفرعون الشاب توت عنخ آمون الذي رحل قبل أكثر من 3300 عام. وذهب "كو اون"، صاحب المجموعة الشعرية "أزهار اللحظة"، إلى أن "طقس تقديم هذه الزهور هو لب الشعر"، معيدا للأذهان أنه منذ الأزل كان الناس يتلون صلواتهم بقلوب ملؤها الشعر على موتاهم لكي يبعثوا في العالم الآخر؛ الذي هو "عالم من الأزهار". ولئن كان الشعر قد انحاز للإنسانية على مدى قرون وقرون من الزمان، فقد أصبح بمرور الزمن أصدق ما يعبر عن كنه ذلك الزمن، كما يقول أمير شعراء كوريا الجنوبية "كو اون"، لافتًا إلى أن الشعر هو "عهد نقطعه على أنفسنا للمستقبل"، فيما تتبدى رؤيته المتفائلة رغم كل شيء عندما يقول: "سيولد الضوء وسيأتي الفجر". ولئن قال أمير شعراء كوريا الجنوبية "كو اون": "بعدد البشر تتعدد الأحلام"، وهمس في إحدى قصائده بمجموعته الشعرية "أزهار اللحظة": "نظرت إلى الخارج مرة أو مرتين أتساءل إن كان أحد سوف يأتي"، فها هى مصر تأتي بكل الحب لبلاده ليكون عناق الأحلام النبيلة ولتتحقق رؤيته الشعرية: "طائر الليل يغني بكل ما فيه من عنفوان بينما النجوم تضيء بكل ما منحت من قوة".