تستهويني كلما بدأت دروس الأدب المقارن أن أبدأ بمقولة رينيه ويليك الشهيرة "لا شيء يعيش منعزلًا، فالانعزال الحقيقي يعني الموت"، وهو ما صاغه الشاعر الكوري الجنوبي الكبير "كو أون" بقوله " حتي ذرة الغبار قد تبدد عزلة المرء". قد لا يعرف كثيرون أن كوريا بلد له حضارة عريقة تضرب بجذورها لآلاف السنين- في منطقة يطلق عليها حسبما تشير أسطورة التأسيس "الصباح الهادئ" وفي الثالث من أكتوبر عام 2233 ق. م. تأسست أول مملكة كورية- وأنها ابتكرت آلة الطباعة قبل الغرب بقرون. مع نهاية القرن التاسع عشر بدأت كوريا تترجم من اللغات الأجنبية- وبخاصة أوروبا وأمريكا- إلي الكورية. وقد ازدهرت حركة الترجمة مع انتهاء فترة الاحتلال الياباني عام 1945م. تلك الفترة التي شهدت رواجًا كبيرًا للكتابة بفعل الدور المهم الذي قام به الكتاب والمبدعون في المقاومة والتوعية. في صيف هذه السنة تلقيت دعوة كريمة من المعهد الوطني لترجمة الأدب الكوري، وكانت فرصة مهمة للتعرف عن قرب عن الوضع الراهن للأدب والأدباء والكتابة والنشر والتوزيع هناك. مبدئيًا يمكن القول إن الكتاب لا يقدمون للجمهور إلا بعد الانخراط والمرور بعدد من ورش عمل خاصة بالكتابة والتأليف والإبداع. قد تسهم بعض الصحف والدوريات في الترويج لكاتب ناشيء لكن الأمر علي كل حال ليس بالميسور. فدور النشر لا تغامر بالنشر إلا لمن تثق أنه سيجد من يقرأ له. ولم أسمع أن كاتبًا يطبع دواوينه أو نصوصه علي نفقته ويتولي توزيعها بنفسه أو من خلال دور النشر وإنما العكس؛ فدور النشر تنتخب من بين الكتاب سنويًا من تنشر لهم. وأمام الكتاب العديد من الفرص للتقدم لدور النشر أو لبعض المؤسسات الوطنية للحصول علي دعم متعلق بنشر إنتاجهم الأدبي، وقد يتجاوز الأمر مجرد النشر لدي البعض ليحصل علي فرصة للسفر خارج كوريا للمشاركة في ندوات وورش عمل الكتابة الإبداعية قد تصل لسنة متصلة أحيانًا.
ومعظم الكتاب هناك لا يكتفون بنوع أدبي واحد فهم يكتبون الشعر والقصة والرواية والسيناريو وغيرها في الوقت نفسه الكاتبة "هان جانج" صاحبة أهم رواية عن فترة الثورة الكورية التي اندلعت شرارتها من مدينة "كوانج جو في الجنوب" في الثامن عشر من مايو عام 1980م بعنوان "الصبي عائدًا" صدر لها هذا العام ديوان شعر. والشاعرة العظيمة "كيم سنغ هي" الملقبة برائدة الحركة النسائية في كوريا وبأم الكاتبات الشابات، ومن أشهر دواوينها "المشي علي حبل الغسيل"، "الحياة داخل بيضة- أعكف علي ترجمته حاليًا- و"الأمل وحيدًا الصادر عام 2012م، تكتب الآن الرواية. بل إن من الكتاب من يقوم بتصميم لوحات أعماله وأغلفة كتبه بنفسه. الصعوبة الكبري أمام الكاتب هي الحصول علي فرصة النشر الأولي، لأنه بعدها يكون قد صار معروفًا وتسهل أمامه فرص التقدم بطلب للنشر لأكثر من دار نشر أو مؤسسة وطنية. أما دور النشر هناك فلها مستشارون فنيون يراجعون الكتب حسب موضوعاتها ويقيمونها ويقررون ما يتم نشره أو رفضه وهكذا. هذه الأيام مصدر الفخر بين الكتاب المرموقين لم يعد بعدد الكتب التي صدرت له فحسب بل بعدد اللغات الأجنبية التي تُرجمت إليها أعماله علي سبيل المثال يحتفي المبدعون بشكل خاص بالمترجمين الأجانب الذين يترجمون كتاباتهم ويقدمون كل عون ممكن بالرد علي أي استفسارات تتعلق بالمحتوي الثقافي أو بما يصعب ترجمته علي غير الكوريين. ولي أنا شخصيًّا مواقف مع أكثر من كاتب كبير في هذا السياق قد تسمح الظروف بسردها مستقبلاً. في بلد يحتل المرتبة الأولي عالميًّا في استخدام الانترنت وكذلك في سرعته الفائقة يحصل الشعب علي المعلومات عن كل شيء وأي شيء من خلال القراءة. المكتبات الكبري في كل مكان وفي كل مدينة بأعداد متناسبة تقريبًا مع السكان تقدم طاولات خاصة للمترددين عليها هم وأولادهم الصغار كي يجلسوا ويقرأوا داخلها بالمجان، والمترددون علي المكتبات يستمتعون بذلك ويردون الكتب وكأن يدًا لم تمسسها. في بلد كهذا تكون طبعات الكتب ونوعية الأوراق في منتهي الفخامة وبخاصة مقارنة بسعرها. أسعار الكتب باختصار في متناول الجميع والحصول علي الكتب المستعملة بأرخص الأسعار موجود ومتاح طوال الوقت. الاشتراك في مكتبات الجامعات كذلك متاح للجميع للإفادة من الثروات الموجودة بها. بلد كهذا منذ أكثر من مئة عام يقدم للمبدعين أوراقًا مقسمة إلي مربعات ليكتب المقاطع الكتابية داخلها كي يسهل عدها وحساب مقابلها المادي- المسألة الآن متروكة للكمبيوتر بسهولة- كما أنها تعرف أين يعيش الكتاب في كل بقعة من أرضها علي نحو ما تبين خريطة الكتاب الكوريين بالمتحف الوطني للأدب الكوري. البلد منذ زمن يعرف كيف يستثمر ما لديه. فتبدو كوريا كمتحف مفتوح دون مبالغة. كل مدينة تتخصص في شيء فهناك مدينة العلوم والتكنولوجيا ومدينة الفنون وهكذا. وهناك محافظة علي كل شبر مرت به أقدام أحد الكتاب المرموقين. ليس فقط منزله الذي يتحول إلي متحف وإنما المقهي الذي اعتاد الجلوس عليه يتحول إلي متحف مفتوح ويقدم المشروبات نفسها التي كان يقدمها لذلك الكاتب منذ عقود. تاريخيًّا، وحسبما يري كيم جايهيوم في مقدمة كتابه "أهم القصائد من كوريا الحديثة"، فإن الشعر الكوري الحديث مرتبط بمطلع القرن العشرين، فالقصائد ذات الحساسية العصرية والنظرة الجديدة قد ظهرت حينما بدأت كوريا تخرج من صومعتها التي مكثت فيها طويلاً، بينما كان تأثير الأدب الصيني يُغذي الأدب الكوري التقليدي. فالأدب الكوري الحديث قد بدأ يأخذ شكله الخاص مع صدمة الاتصال بالأدب الغربي. فالبداية كانت مع الممارسة والتعلم العمليين في الفترة من (1770م حتي 1820م) مع الاتصال المباشر بين كوريا والغرب فيما يُسمي بمرحلة التنوير التي امتدت من (1880م إلي 1910م).فمع أمواج المد السياسي والتعليمي والاجتماعي خلال تلك الفترة كان الأدب الكوري مهيأً للتجديد تحت راية الأساليب الجديدة التي أنتجها رائدا الأدب الكوري الحديث؛"تشو نام سون" علي مستوي الشعر وبخاصة في ديوانه "الصبي من البحر" الصادر عام 1908م في مجلته الخاصة "سون يون"، و"يي كوانج سو"علي مستوي القَصّ في عمله المبكر عام 1917م. لقد كانا بمثابة طوفان حداثي فعلتي. ومع اهتمامهما الكبير بالوظيفة التعليمية للأدب، فقد كان أدبهما تنويريًا للشعب الكوري كما كان أدبًا معنيًّا بتقدم المجتمع. "في منتصف العشرينيات تقريبًا، كان كل مِن"تشو يو هان" و "كيم آن سو" قد نجحا خلق مناخ أدبي ساعد شعراء مثل "كيم سو ول" ليكون أفضل شعراء تلك الفترة،بعد أن أسس لنفسه طريقًا خاصًا ببلورته للمشاعر الوطنية وشجن الناس ملضومة في خيط من البراعم التي جسدتها قصائد مثل "أزهار في التلال"، و"تضرُّع" و"أزاليا" علي سبيل المثال لا الحصر. فقد كان من أوائل الذين اهتموا بالطبيعة في الشعر كما كان يملك الكثير من المعرفة العميقة بها. لم ينظر إلي الطبيعة باعتبارها مجرد مركز الجمال، ولكن باعتبارها أيضًا مصدر الإيحاء بالحياة. وبمعالجاته الذكية عبر توظيف المفارقات كان قد جعل عناصر الطبيعة المستخدمة في قصائده معبرةً عن المواقف الإنسانية ومجسدة لها. في تلك الفترة كذلك نبغ "بيون يونج نو" و" كيم تونج ميونج" اللذان تأمَّلا في جمال الأرض المفقودة. فقصيدتاهما "عندما يجري النهرُ منسابًا" و" الثلج يهطلُ" من نفائس تلك المرحلة"."في آواخر العشرينيات منح كلٌّ مِن "يي سانج هوا" و" هان يونج أون" الشعر الكوري قوةً بإدخال نسيجٍ الغموض الميتافيزيقي والنظرة المتأملة في الوعي الإنساني وعلاقته بالوجود.
"في مطلع الثلاثينيات، ألقي الشعراء خفقان القلب الزائد والوجد العليل بعيدًا مع حلول حالة من الهدوء العقلاني. في الوقت نفسه كان الصخب الجنوني للاشتراكية قد بدأ طريقه إلي الاختفاء بداعي الفن للفن. ومِن أهم شعراء هذه الفترة "كيم يون نان" الذي صنع بنجاحٍ إطارًا كالحلم عبر التناغم بين الكلمة والصوت، و" تشونج تشي يونج" الذي ذعلي الناحية الأخري- الذي نَحَتَ صورًا مستمدةً من التقاليد الغربية وبث روحًا جديدًة في النسق المتكرر للأشعار التقليدية، و"شن سوك تشونج" الذي اشتهر كشاعر رعويٍّ، إذ إنه قضي مرحلة الشباب في الريف، حيث كوّن وعيًا متميزًا واهتمامًا جادًا ومعرفةً عميقةً بالريف" في تلك الفترة أعطي الشاعر "كيم كي ريم" ظهره لتقاليد الشعر الكوري رافضًا السير علي نهج الأسلاف من الشعراء، كما أنه كان من أوائل الشعراء الذين أطلَعُوا القراء علي كوكبة من شعراء الغرب أمثال عزرا باوند، وستيفن سندر، وإليوت. ثم في أواخر الثلاثينيات، ظهر شعراء، وبزغت مجلات أدبية تمامًا كبزوغ عيش الغراب عقب هطول المطر، وكان من بين شعراء كثيرين في تلك المرحلة الشاعر "سو تشونج جو" الذي تمرد علي جمود القصيدة وجفاف أرضيتها فنفث الحيوية في شعر المرحلة باحثًا عن فطرة الحياة خلال معالجاته السحرية للغة الكورية، مخلفًا عددًا مِن أروع نصوص الشعر الكوري الحديث في تلك الفترة، مثل قصيدة "الثعبان" و" الظهيرة"، مبرزًا خلال نفائسه الشعرية الطريق الذي يجب أن يسلكه الشعر الكوري الحديث. وقبل نهاية الثلاثينيات شهدت الفترة ميلاد "جماعة الغزال الأزرق" التي ارتبطت بتقاليد الشعر الكوري، وتكونت من ثلاثة شعراء. "باك تو جون" الذي بحث في الطبيعة عن معني وجود الإنسان، و "باك موك وي" الذي حرك عصاه السحرية فوق أصول اللغة الكورية في قصائده القصيرة، و "تشو تشي هون" الذي لجأ إلي الماضي كي يُعيد خلق الجمال الكوري."منذ تلك الفترة ومع الخمسينيات، ازدهر الأدب الكوري بشكل واضح، وكان من أهم شعراء تلك الفترة؛ "يون توج جو" و "يي يوك سا" اللذان نُشرت قصائدهما بعد الحرب. لقد جسدت قصيدة "يي" بعنوان " عُلوٌّ" الأوقات العصيبة التي عذبت الأمة الكورية بشكل تصويري: جُرِحتُ بسياط الموسم الفظِّ| كنت أتجه في النهايةِ نحو الشمال حيث الجنةالمتاخمة قد استنامت للعلوِّ| بينما الثلجُ يمزِّقُ لحمي لا أدري أين يمكنني أنْ أمدَّ رِجلي| أين يمكنني أنْ أخطوَ خطوةً واحدة
في الستينيات ومع النضال السياسي والاجتماعي ضد ما تبع مرحلة التقسيم من حكم عسكري وحتي تأسست الجمهورية الكورية المدنية في مطلع التسعينيات بالفعل، كان للكتاب دور بالغ التأثير في المجتمع، وما يزال لهم هذا الدور حتي الآن. فالأدب الكوري شأنه شأن الفن الكوري يبني ويؤسس للقيم الحضارية والإنسانية النبيلة وهو ينتقد ويتحدي ويندد دون صراخ أو خطابة. فشهرة "كيم جوانج كيو" أو "كو أون" كأدبيين معاصرين ومدي الاهتمام بما يكتبان تعطي مؤشرًا مهمًا لدور الأدب في حياة الكوريين. ويكفي أن أقول في النهاية أن صفوة الكتاب الكوريين يسكنون في منطقة " آن سونج" التي تبعد ساعة بالباص عن العاصمة سيول، وهي حلم السكن والإقامة لكثير من الكتاب الشباب، ويكفي أن تزور ذلك المكان لتجد نفسك في متحف حقيقي جدًا للآدباء المعاصرين، كما يكفي أن تنطق باسم هذا الكاتب أو ذاك لسائق التاكسي هناك ليقلك علي الفور من محطة الباص إلي منزله دون عناء". مدرس الأدب المقارن كلية الآداب جامعة القاهرة