رواتب تصل ل 12 ألف جنيه.. 3408 وظيفة ب16 مُحافظة - الشروط والأوراق المطلوبة    اليوم.. وزير الأوقاف ومحافظ الشرقية يفتتحان مسجد محمد فريد خميس بالعاشر من رمضان    الأقباط يؤدون صلوات الجمعة العظيمة بدير القديس متاؤس في الأقصر    وأنت في مكانك، خطوات تجديد بطاقة الرقم القومي أونلاين    مجدى البدوى نائب رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال مصر: «الحوار الوطنى» حقق مكاسب كبيرة للعمال    البابا تواضروس: وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن.. فيبقى الوطن ودور العبادة    سعر الذهب اليوم الجمعة في مصر مع بداية التعاملات    3 مايو 2024.. نشرة أسعار الخضراوات والفاكهة في سوق الجملة    أسعار البيض اليوم الجمعة في الأسواق (موقع رسمي)    تسلا تعرض شاحنتها المستقبلية سايبرتراك في ألمانيا    طريقة تشكيل لجان نظر التظلمات على قرارات رفض التصالح في مخالفات البناء    7 مليارات جنيه عوائد سنوية من عبور الكابلات البحرية للأراضى المصرية    القاهرة الإخبارية: قصف إسرائيلي مكثف يستهدف عدة مناطق ومنازل بحي الزيتون    مسئولون فلسطينيون ل«روزاليوسف»: مصر صمام الأمان لقضيتنا    الزوارق الحربية الإسرائيلية تكثف نيرانها تجاه المناطق الغربية في رفح الفلسطينية    وزير الدفاع الأمريكي: القوات الروسية لا تستطيع الوصول لقواتنا في النيجر    حماس تثمن قطع تركيا العلاقات التجارية مع إسرائيل    أخبار الأهلي : 4 لاعبين يغيبون عن الأهلي أمام الجونه وغموض موقف هاني    رئيس اتحاد الكرة: عامر حسين «معذور»    طقس الساعات المقبلة.. "الأرصاد": أجواء شديدة الحرارة بهذه المناطق    ضبط أسماك وفسيخ غير صالح للاستهلاك الآدمي في البحيرة.. صور    أمن القاهرة يكشف تفاصيل مقتل شاب على يد ممرضة ووالدها بالمقطم    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق مخزن ملابس بالعمرانية    استعدادات غير مسبوقة في الشرقية للاحتفال بأعياد الربيع وشم النسيم    «أم الدنيا».. أرض الأعياد    "مانشيت" يعرض تقريرا من داخل معرض أبوظبى الدولى للكتاب اليوم    بول والتر هاوزر ينضم ل طاقم عمل فيلم FANTASTIC FOUR    واعظ بالأزهر ل«صباح الخير يا مصر»: علينا استلهام قيم التربية لأطفالنا من السيرة النبوية    هل مسموح للأطفال تناول الرنجة والفسيخ؟ استشاري تغذية علاجية تجيب    ألونسو: قاتلنا أمام روما..وراضون عن النتيجة    الشارقة القرائي للطفل.. تقنيات تخفيف التوتر والتعبير عن المشاعر بالعلاج بالفن    حكم لبس النقاب للمرأة المحرمة.. دار الإفتاء تجيب    خريطة التحويلات المرورية بعد غلق شارع يوسف عباس بمدينة نصر    تشاهدون اليوم.. زد يستضيف المقاولون العرب وخيتافي يواجه أتلتيك بيلباو    إشادة حزبية وبرلمانية بتأسيس اتحاد القبائل العربية.. سياسيون : خطوة لتوحيدهم خلف الرئيس.. وسيساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في سيناء    اعتصام عشرات الطلاب أمام أكبر جامعة في المكسيك ضد العدوان الإسرائيلي على غزة    حرب غزة.. صحيفة أمريكية: السنوار انتصر حتى لو لم يخرج منها حيا    لأول مرة.. فريدة سيف النصر تغني على الهواء    خالد الغندور عن أزمة حسام حسن مع صلاح: مفيش لعيب فوق النقد    تشكيل الهلال المتوقع أمام التعاون| ميتروفيتش يقود الهجوم    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدد المرات.. اعرف التصرف الشرعي    حكم وصف الدواء للناس من غير الأطباء.. دار الإفتاء تحذر    «التعليم»: امتحانات الثانوية العامة ستكون واضحة.. وتكشف مستويات الطلبة    الناس لا تجتمع على أحد.. أول تعليق من حسام موافي بعد واقعة تقبيل يد محمد أبو العينين    «تحويشة عمري».. زوج عروس كفر الشيخ ضحية انقلاب سيارة الزفاف في ترعة ينعيها بكلمات مؤثرة (صورة)    إبراهيم سعيد يكشف كواليس الحديث مع أفشة بعد أزمته مع كولر    وزارة التضامن وصندوق مكافحة الإدمان يكرمان مسلسلات بابا جه وكامل العدد    مواعيد صرف معاش تكافل وكرامة بالزيادة الجديدة لشهر مايو 2024    دراسة أمريكية: بعض المواد الكيميائية يمكن أن تؤدي لزيادة انتشار البدانة    دراسة: الأرز والدقيق يحتويان مستويات عالية من السموم الضارة إذا ساء تخزينهما    أهداف برشلونة في الميركاتو الصيفي    رسالة جديدة من هاني الناظر إلى ابنه في المنام.. ما هي؟    حكم البيع والهبة في مرض الموت؟.. الإفتاء تُجيب    تعيين رئيس جديد لشعبة الاستخبارات العسكرية في إسرائيل    مصطفى كامل ينشر صورا لعقد قران ابنته فرح: اللهم أنعم عليهما بالذرية الصالحة    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفرنسى روبير سوليه.. مواطن من هليوبوليس..
أرتدى ثلاث قبعات للكتابة عن مصر وأتنقل بين الصحافة والرواية والتاريخ
نشر في الأهرام اليومي يوم 10 - 08 - 2018

فى أحد المقاهى بمدينة جنيف عاصمة الثقافة الفرانكفونية السويسرية، التقت مراسلة الأهرام الكاتب الصحفى والروائى الفرنسى روبير سوليه المولود عام 1946 فى القاهرة، التى أمضى بها طفولته ومراهقته حاملًا الجنسية المصرية قبل أن يسافر عام 1963 للدراسة والاستقرار فى فرنسا. جاء الحوار فى أثناء زيارة سريعة للكاتب لم تستغرق يومين، استجابة لاستضافة الجمعية الثقافية السويسرية المصرية بجنيف فى إطار ندوات نشاطها الثقافى الصيفي؛ ليلتقى نخبة من الباحثين والدارسين والمهتمين وأبناء الجالية المصرية لمناقشة أحدث كتبه «صانعو مصر الحديثة». بالمصادفة، دار الحوار فى مقهى يديره عربى من شمال إفريقيا، كانت هناك رائحة بخور مميزة وموسيقى عربية خافتة فى المكان، وبمجرد جلوسنا تعرفنا بسهولة على صوت أم كلثوم فى الخلفية تشدو «بعيد عنك»، وهو ما وصفه سوليه بقوله باسمًا: مصر تطاردنا فى كل مكان، ولعل سوليه نفسه كان سعيدًا بتلك المطاردة، التى تعكسها إجابته الصريحة المكررة عندما يسأله أحدهم عن هواه وهويته، فيجيب متجاوزًا الموثق بالأوراق الرسمية، وما هو مدون فى جواز سفره الفرنسي: - أنا مواطن من هليوبوليس.
بداية، هل مصر ولع فرنسى وهو عنوان لأحد كتبك المترجمة للعربية، أم ولع سوليه الشخصى؟
كلاهما صحيح، ولهذا جاء وقوفى وسيطًا بين ثقافتى ومعرفتى الفرانكفونية وشغفى الشخصى كابن بلد من مصر. أعترف بأننى كنت محظوظًا لميلادى فى جنة فريدة ومنطقة سحرية تقاطعت فيها البيوت والأشجار دون أن يتجاوز أحدها ارتفاع الآخر فى ذلك الحى الحديقة الذى حمل اسمًا تاريخيًا يناسبه تماما: هليوبوليس، أو مدينة الشمس، وهو ما يلخص عشق مصر القديمة للشمس رمز الحياة والدفء التى كانت حجر أساس التوحيد فى عقيدتها القديمة، المعروف حاليًا تبعا للتقسيم الإدارى باسم حى مصر الجديدة، ولكنه بالنسبة لى ولأبناء جيلى لم يكن مجرد مكان ميلاد أو حياة بل كان المدينة الأقدس والملاذ الآمن والسكن الحقيقى وعاصمة أرواحنا، وليس فى الأمر ثمة مبالغة إذ يمكن ببساطة الرجوع إلى كتابات وأفلام تلك الفترة وما بعدها لفهم طبيعة تلك المنطقة التى لم تكن تشبه إلا نفسها. كانت هليوبوليس مجتمعًا حيًا، فرحًا وهادئًا، حيث عاش المرء بتورط كامل فى أحداثه التى تركت آثارها عميقة فى نفوس كل من حالفهم الحظ ليكونوا جزءًا منه ومن روحه الكونية، وهو ما عرفه من قبله سكان الإسكندرية ومدن القناة ومنها الإسماعيلية على سبيل المثال. لقد كان حى مصر الجديدة حلمًا فى حد نفسه، تم تحويله إلى واقع على أطراف صحراء القاهرة العاصمة فى بدايات القرن العشرين ليصبح معادلًا ونسخة مصغرة لمدينة الإسكندرية الكوزموبوليتانية المتعولمة ببهاء، قبل العولمة المشوهة التى طالته أيضًا عندما تشعب المكان وتمددت أطرافه بعد عقود؛ لاستقبال سكان جدد لا يعرف بعضهم البعض، بعد رحيل سكانه القدامى ممن تكلموا لغات عدة وعبروا عن تجمعات مختلفة، وتعايشت ثقافاتهم جنبًا إلى جنب قبل أن يختاروا طوعًا، ومنهم كثير من أصدقاء الطفولة والصبا، وأنا معهم، السفر أو النفى الاختيارى إلى الجهة المقابلة من البحر المتوسط، حيث غادرت شخصيًا مصر فى سن السابعة عشرة عام 1963 بمفردى قبل أسرتي-، للدراسة فى فرنسا، واخترت الاندماج بالكامل متناسيًا بلدى الأول. أعترف بأن محيطى فى مصر كان مستعَمرًا ثقافيًا وفكريًا إلى درجة جعلتنا أجانب فى بلدنا الذى نحمل جنسيته، وعندما سافرت إلى فرنسا لدراسة الصحافة ثم حالفنى الحظ فى سن الثالثة والعشرين بالانضمام إلى صحيفة لو موند، واصلت السير فى الطريق نفسه بالصعود والترقى فى العمل والزواج من امرأة فرنسية، وإنجاب أطفال فرنسيين، والحصول بالتبعية على الجنسية الفرنسية، مع تعمد إزاحة ذكريات سنواتى فى مصر جانبًا فى سلوك أشبه بفقدان الذاكرة الطوعى.
يبدو أن ولعك الشخصى، هو هليوبوليس، بماذا تفسر ذلك، ولماذا تضحك عيناك كلما ذكرتها؟
- لقد كان لهليوبوليس مجدها وزهوها، وعندما جاء البارون امبان البلجيكى فى بداية القرن العشرين للباشا المصرى بمشروعه الحلم، تم تأسيسه على هضبة صحراوية جرداء على حافة العاصمة فى شمالها الشرقى ليكون واحة من الفخامة مثلما كان الأمر فى مناطق أخرى على سبيل المثال: مدينة سموحة بالإسكندرية التى بزغت فى الفترة نفسها على يد تاجر الأقطان اليهودى جوزيف سموحة-، وأسهم الرفاه الاقتصادى والتعايش الهادئ فى بزوغ نجم هليوبوليس الحى متنوع الثقافة الذى يضم أطيافًا من السكان ذوى الثروات المتفاوتة، والجذور القومية المتعددة، والألسنة والمعتقدات المختلفة، والتى لم يبخل عليها مصممها بالشوارع الفسيحة، والحدائق المترامية، والعمارة التى مزجت بين طعوم شتى من أروقة مغاربية، وفيلات ذات طرز إيطالية، وقباب إسلامية عربية، وبيوت حميمة ذات أسوار واطئة تحفظ الخصوصية وتسمح بالاقتراب، ومبان بعمارة إنجليزية متجاورة ومنفصلة تخضع جميعها لمواصفات تتضمن توحيد لونها وتجريم الخروج عليه، مع تآلف ومساحة محفوظة للمعابد والمساجد والكنائس، والتى كان من بينها كنيسة كاثوليكية بالقرب من ميدان الجامع نسخة مصغرة من كنيسة القديسة صوفيا فى القسطنطينية، فضلًا عن فندق قصر هليوبوليس جوهرة قلب الصحراء، الذى تحول بعد عام 1952 إلى مقر لرئيس الجمهورية. وعلى خطى الإسكندرية، سارت هليوبوليس لتصبح كيانا مصريًا خالصًا، وإن لم يتسن لأحد تحديد ملامحها التى انطبعت على سكانها الأوفياء، وحتى يومنا هذا، لم تختف من مصر الروح الهليوبولوسية بالكامل، وما زلت أراها كالعنقاء التى تنتفض من حين لآخر من تحت الرماد؛ لتتبدى لعشاقها كشبح امرأة الحب الأول، وهو ما يجعلنى قادرًا حتى الآن على الشعور بالفخر فى مكان عميق من روحي؛ لأننى ما زلت أحمل روح مواطن أصيل من هليوبوليس.
وماذا عن ولعك الفرانكفونى الذى تركت من أجله القاهرة خلفك؟
أنا من مواليد القاهرة فى 14 سبتمبر عام 1946، لأسرة تحمل الجنسية المصرية، من أصل سوري- لبنانى واعتراف كنسى يونانى - كاثوليكى. استقرت عائلتى فى مصر لأجيال، سواء من جهة الأب أو الأم. وشكّل أفرادها لعقود جزءًا من الأقلية الوافدة التى لعبت دورًا مهمًا على ضفاف النيل فى مجالات شتي: فنية وفكرية وتجارية، على الرغم من محدودية عدد أفرادها. كانت عائلتى غربية الثقافة فرنسية اللسان فى مصر الناطقة بالعربية، التى أفسحت مكانًا للغة الإنجليزية لتصبح لغتها الثانية الرسمية، وإلى جانبها اللغة الفرنسية فى مكانة مرموقة مميزة. لقد كان الأمر بالنسبة لأسرتى أكثر من مجرد لغة: كانت الفرانكفونية هويتهم فى زمان ومكان رحبا بالكوزموبوليتانية - والكوزموبوليتان مصطلح يونانى من شقين: «كوزموس» أى «العالم»، و«بوليس» أى المدينة- بمعنى المدينة العالمية، مثل باريس والإسكندرية، وهو ما عشته فى بقعة صغيرة من القاهرة، كانت هى العالم الذى ما زلت أراه جميًلا، متجاوزًا عن أخطائه وعثراته، وما شابه من هزائم أو مظالم.
عندما كنت طفلاً، تلقيت تعليمى الابتدائى فى مدرسة تديرها البعثة الفرنسية المدنية (الليسيه، بعيدًا عن مدارس الإرساليات)، حيث تعلمت سلوكا ومعارف فرنسية لم أرثها من أجدادى، وانضممت لفرق كشافة وادى النيل التى أظنها ما زالت تواصل أنشطتها حتى الآن، وواظبت فيها ككشاف صالح تحية العلم باللغة العربية، إلى جانب دراستى بالفرنسية حتى حصولى على البكالوريا الفرنسية فى كلية الآباء اليسوعيين بالفجالة (الجيزويت). لقد كان لى ذكريات كثيرة فى نادى هليوبوليس الرياضى، الذى كان يشرف على بوابة دخوله أيام الإجازات حارس إنجليزى، بينما كنا نحرص بعد ظهر السبت على الذهاب إلى سينما نورماندى أو روكسى أو هليوبوليس بالاس لمشاهدة الأفلام الأمريكية، التى كانت تُعرض مصحوبة بترجمتين إلى العربية والفرنسية، بينما كان متجر ألعابنا المفضل يحمل اسمًا يونانيًا وعلامة تجارية فرنسية، نعبره فى طريقنا لشراء الجاتوه الفرنسى والآيس كريم الإيطالى من جروبى المملوك لرجل أعمال سويسرى، ونشترى أدواتنا الكتابية من متجر يحمل اسم ألف صنف وصنف يضم العالم فوق أرففه. فى تلك الفترة، كان طبيب أطفال عائلتى سوريًا، ومصورنا الفوتوغرافى أرمنيًا، وحارس بيتنا من صعيد مصر، وجمعينا لا يرضى بغير مصر بديلًا.
أعشق مصر الجديدة فى الأربعينيات مثل الحب الأول
تتحدث عن مصر مختلفة فى فترة مفارقة وكأنها عالم خيالى مثالى، ما الذى أدى لاختفائه؟
عشنا فى تلك اللحظة الفريدة من تاريخ مصر متجاورين مصريين وأجانب، ومسلمين ومسيحيين ويهود: نتزاور، ونتقاطع فى ردهات أماكن العمل وطرق التنزه وعلى مدى أنشطة الحياة اليومية، وتجمعنا صداقات وعلاقات مودة، وإن ظلت فى حدودها المرسومة التى لم يتم تجاوزها إلا نادرًا وعلى وجه الخصوص بالاقتراب الشديد من علاقات مصاهرة أو زواج حتى بين المسيحيين من الكاثوليك والأرثوذكس، فما بالك باليهود والمسلمين، أو مسلمة بمسيحى. قط لم يختلط الماء بالزيت، وحافظت كل جماعة على خصوصيتها وجذور عاداتها القومية أو العرقية أو الديانة، مع قبول فكرة التعايش والجوار والبعد عن مفهوم الذوبان والانصهار الذى تبنته أفلام الولايات المتحدة وروجت له فى إطار الحلم الأمريكى. على سبيل المثال، فى نهاية الخمسينيات من القرن العشرين، ضمت هليوبوليس أكثر من مائة وخمسين ألف نسمة، وظلت بقعة هادئة مسالمة بأشجارها الممتدة بعيدًا عن ضجيج مناطق أخرى من العاصمة، وكان من الممكن رؤية بدو الصحراء يقطعونها فى طريقهم إلى أحياء أخرى قريبة دون أن تشعر بغرابة ذلك التعايش. ثم أصبحت هليوبوليس وجهة لقيادات حركة الضباط الأحرار بعد عام 1952، وظهرت برجوازية مصرية ناطقة بالعربية، إلى جانب الإنجليزية. وبين عشية وضحاها، تحولت الفرنسية إلى لغة معبرة عن النظام الملكى القديم.
ساعدت أزمة السويس عام 1956 على تحجيم روح الكوزموبوليتانية فى مصر حيث وجد كثيرون أنفسهم تحت ضغط اختيار مر، وغادرت العديد من الأسر الناطقة بالإنجليزية أو الفرنسية أو المولودة فى الخارج (من الجاليات اليونانية والإيطالية والأرمينية والشوام من السوريين واللبنانيين وغيرهم)، وغالبية اليهود المصريين، واحدة تلو الأخرى، قاموا بتلك الخطوة وكأنها إعلان نهاية العالم. وهكذا تم حرمان هليوبوليس من جزء من روحها الفريدة. لاحقًا بعد عقود، جاء سكان جدد ليستقروا بها نتيجة لتميزها السابق مما استلزم تمددها جغرافيًا فى جميع الاتجاهات لاستيعابهم، وتم محاصرة قلبها ومبانيها الرائعة بالأبراج الخرسانية، وتدافعت فى شوارعها سيارات الدفع الرباعى الفاخرة، بجانب سيارات قديمة من قرن سابق. اليوم، أصبحت تشبه ما حولها مع ضجيج أصوات العابرين عبر الهواتف المحمول، وأفواج الفتيات بأغطية الرأس الملونة والجينز فى مراكز التسوق الحديثة التى قامت على أنقاض بنايات فاخرة لتصنع الأجيال الجديدة ذكرياتها المعاصرة مع المكان بالحماس نفسه الذى عشته مع أقرانى فى سياق وزمن مختلفين. وتتواصل الأجيال، وتصل راية الثورة إلى هليوبوليس من ميدان التحرير فى يونيو 2013، عندما أحاط آلاف المتظاهرين بالقصر الرئاسى، مطالبين بإقالة الرئيس ذى التوجه الإسلامى محمد مرسى.
ما الذى دفعك للعودة بعد 20 عامًا من الانقطاع والانتقال للطرف النقيض بالكتابة عنها بلا توقف على مدى العقود الثلاثة الماضية؟
كما نقول فى مصر: كله مكتوب، فى سنوات الدراسة والاحتراف فى فرنسا ثم العمل فى اللوموند، انشغلت مهنيًا بقضايا تهم القارئ الفرنسى وما زال الوضع قائمًا وإن ظل مقصورًا ومحددًا بمقال أسبوعى أو لقاء إذاعى هنا أو هناك. تزامن مع عودتى إلى مصر اهتمام أصيل وحنين قادم من لا وعى طفولتى حيث رغبت مثل غيرى فى العودة للسير فى طرقات تركناها، ربما لنكتشف أجزاءً من أرواحنا التى تعرضت للنفى أو أجبرناها على السبات، فى محاولة للتصالح واستجماع قطع الفسيفساء لاستكمال صورة ما. عدت إلى مصر فى بداية التسعينيات حذرًا على أطراف أصابعى، مصحوبًا بالحنين والحيرة أيضًا، لأن البلاد قد تغيرت، على الأقل ديموجرافيًا من حيث تضاعف عدد سكانها، ومعماريًا من حيث اختفاء تحف معمارية وارتفاع كتل أسمنتية ضخمة، مع تمدد هليوبوليس الجغرافى لمجاراة الزبائن الجدد. وكان أشد ما لفت نظرى كعين غريبة اختفاء الروح الكوزموبوليتانية، وتقبل الفوضى بتنويعاتها، كانت التغييرات مقلقة ومكثفة فى الوقت الذى لم تتغير فيه روح المصريين الساخرة وتربيتة الكتف بمعلش الصامدة. وعندئذ تبلورت رغبتى فى أن أقص رواية أسرتى منذ وصولها إلى ضفاف نهر النيل، متخليًا عن فقدانى الطوعى للذاكرة، محدثًا نفسي: ليس من الطبيعى أن يختفى ذكر هؤلاء الناس الذين عاشوا، وأحبوا، واحتفلوا، وبكوا فى مصر، لمجرد رحيلهم عنها. كانوا يستحقون هامشًا فى كتاب تاريخ القرن العشرين، ورأيت أنه يمكننى كتابة هذا السطر. اتخذت قرار الزيارة الأولى -التى تكررت-، وكشفت المستور وأحييت بالكتابة بقايا عالم بداخلى بينما أشاهده يختفى تدريجيًا. منحتنى زيارة مصر الدافع لاستكمال مشروع الكتابة، حيث كنت قد بدأت عام 1966 فى وضع خطوط عامة لرواية ظهرت أخيرا فى روايتى السادسة فندق مهرجان، التى تدور فى مدينة نارى المتخيلة ولكنها لا تبتعد فى ملامحها عن مصر-، وبدأت العمل بعد زيارتى الأولى على روايتى الطربوش. لكتابة الطربوش، أجريت مقابلات مع عدد من كبار فى السن ممن عاصروا أحداثًا ومواقف فاصلة أو وصلت إليهم بطريقة أو بأخرى ماتوا جميعًا الآن-، وقرأت عددًا ضخمًا من الكتب والمقالات الصحفية والشهادات وعدت إلى الأوراق والوثائق العائلية. وعثرت شيئًا فشيئًا على إجابات لأسئلة أرقتنى حول الكوزموبولتينية التى عاصرتها، وطرحتها فى تلك الرواية التى وجدت صديً، بين قراء من جذور مصرية أو سورية لبنانية ممن عاشوا فى مصر، وبين أقباط ومسلمين ويهود ويونانيين وأرمن، وآخرين من سكان الدار البيضاء، أو تونس أو الجزائر، حيث وجد كثيرون أنفسهم فى تلك الرواية مع مشاعر بعينها بقيت داخلهم، وهو ما واصلت رصده فى رواياتى الست، وهي: الطربوش (1992)، سيمافور الإسكندرية (1994)، والمملوكة (1996)، ومزاج (2000)، وأمسية فى القاهرة (2010) وفندق مهرجان (2015)، وإن كنت قد قدمت قبل تلك الروايات كتابى «المسيحيون الجدد» (1975)، و»تحدى الإرهاب» (1979)، وذلك قبل أن أخصص جل وقتى وكتاباتى لمصر حيث قدمت «مصر ولع فرنسى» (1997)، و»علماء بونابرت» (1998)، وقاموس الحب فى مصر (2001)، ورحلة المسلة الكبرى (2004)، و»بونابرت وغزو مصر» (2006)، و»الحياة الأبدية لرمسيس الثانى» (2011)، و»سقوط الفرعون» (2011)، و»تذاكر» (2012)، و»شامبليون» (2012)، و»السادات» (2013)، وأخيرا «صناع مصر الحديثة». فضلًا عن دعوتى للمشاركة فى العديد من الكتب عن مصر أيضًا، منها: حجر رشيد (مع دومينيك فالبيل، 2001)، والإسكندرية المصرية (مع كارلوس فرير، 1998)، والسفر فى مصر (مع مارك والتر، 2003 ) ومجنون مصر (مع ثلاثة مؤلفين، 2005)، ومصر الأمس بالألوان (مع ماكس كيركيجى، 2009)، وقد تمت ترجمة بعضها إلى العربية.
ارتبط اسمك بالكتابة عن مصر، كيف ترى ارتفاع نجمك ككاتب وروائى وخفوته كصحفى؟
لقد أديت عملى الصحفى بروح المهنى الدءوب، وأعطيت العمل ما يريد فمنحنى المزيد. التحقت بالعمل فى صحيفة لوموند فى 1969، التى يجد البعض تشابها بينها وبين الأهرام لرصانة الأسلوب. بدأت حياتى المهنية محررًا فى القسم الدينى، ثم تم اختيارى مراسلًا للجريدة فى روما، ثم واشنطن، قبل عودتى رئيسًا لقسم خدمة المجتمع، ومنه إلى منصب مدير التحرير، ثم مستشار الصحيفة، إلى جانب عمود يومى فى الصفحة الأخيرة، وإشرافى لاحقًا على ملحق اللوموند الأدبى الشهير عن الكتب، قبل التقاعد فى مارس 2011، وهو ما تزامن مع بداية الحراك العربى مما منحنى فرصة أكبر للكتابة الحرة والسفر والتركيز على مشروعاتى الأدبية بعيدًا عن الصحافة. وأنا على أى حال، شخص منظم، أجيد تقسيم الوقت وتنظيمه، وهو ما مكننى من البدء فى كتابة روايتى الأول قبل بلوغ الأربعين، حيث حققت نجاحًا شجعنى على الاستمرار، دون الانسياق وراء طلبات بعض القراء ممن نصحونى بكتابة الجزء الثانى، وهو ما فعلته ولكن على نحو معاكس بالانطلاق إلى الحقبة الزمنية الأبعد مع العائلتين المتخيلتين: البطرخانى وتوتا، حيث تدور أحداث روايتى الثانية سيمافور الإسكندرية عام 1863، وتتواصل بعدها روايتى الثالثة المملوكة لتبدأ عام 1890. احتاجت تلك الثلاثية بحثًا تاريخيًا معمقًا بالإضافة إلى مقابلات مع كبار السن، و الرجوع إلى الكتب والصحف والصور والوثائق، وهو ما كان تمهيدًا لكتابة «مصر.. ولع فرنسى»، الذى خرجت فيه من رداء الرواية إلى مقالات إعادة قراءة التاريخ، وتبعته كتب أخرى جاءت فى بعض الأحيان نتيجة لتطوير وتعميق بعض الأفكار التى تناولتها عرضًا ودارت فى فلك انبهارى بالقرن التاسع عشر، الذى شهد فك رموز اللغة الهيروغليفية وإعادة اكتشاف مصر القديمة. وأعتقد أننى قمت بهذا كله بدون السقوط فى فخ الحنين، وإنما بالسعى لرؤية وتلمس كل الزوايا حيث أعمل بمفردى دون مساعدة باحثين أو سكرتارية، وأستلهم العديد من الأفكار من البحث والاطلاع على القديم أو إجراء مقابلات بعينها. وعلى الرغم من كونى غير دارس أو متخصص فى علم المصريات، ولم يسبق لى إنجاز دراسات فى الثقافة الرومانية الهيلينية، أو فى علم الاجتماع أو الاقتصاد، إلا أنه تم تعميدى خبيراً فى شئون مصر، ولا شك أن تجربتى كصحفى كانت تميل لهذا النهج العام، حيث تتكامل وتتعدد اهتماماتى بمصر بين التاريخ القديم وبدايات الرهبنة القبطية وأخبار المماليك وصولًا إلى البحث فى أرشيف السينما المصرية وأثرها، وهكذا.
فى كتابك الأحدث «صانعو مصر الحديثة»، قدمت استعراضًا لتاريخها عبر أسماء بعينها، كيف جاء اختيارك للشخصيات العشرين المطروحة؟
لفهم مصر اليوم لابد من الغوص فى تاريخها بالأمس، ولكى أقص حكاية قرنين من الزمان اخترت محطات لشخصيات شَكَلت التاريخ، وتَركت آثارها على مصر المعاصرة شئنا أم أبينا، كل بطريقته، من بينهم أجنبيان: بونابرت الفرنسى وكرومر الإنجليزى، وامرأتان: هدى شعراوى وأم كلثوم، ورواد ومفكرون أمثال: رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده وطه حسين وحسن البنا، ونجيب محفوظ، فضلًا عن رجال دولة وسياسيين بداية من الوالى محمد على ومرورا بأبنائه وأحفاده وعرابى وسعد زغلول ثم ناصر والسادات ووصولًا إلى الرئيس الحالى عبد الفتاح السيسى. كما يرصد الكتاب الفاعلين المؤثرين، ومنهم من لم يحظ بما يستحقه من شهرة من وجهة نظري-، مثل: الطهطاوى، على الرغم كونه من أوائل المبعوثين المصريين إلى أوروبا، والذى كرمته مكتبة الإسكندرية فى أبريل الماضى - بحضوري- بافتتاح صالون ثقافى دورى يحمل اسمه.
فى الوقت نفسه، أبدى بعض المتابعين تحفظهم لاختيار نابليون بونابرت على رأس قائمة الشخصيات العشرين، وأنا لا أرى اختيار بونابرت تكريمًا أو تحيزًا لفرنسيته أو لفرانكفونيتى، ولكنه تأريخًا موضوعيًا، باعتباره صاحب شرارة للبدء فى حكاية تاريخ حقبة محددة، حيث أتفق مع كثيرين فى اعتبار وصول قوات الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798، أول لحظة احتكاك حقيقية صادمة للمصريين بالعالم الغربى الخارجى بعد قرون من الحكم العسكرى المنغلق من المماليك ثم العثمانيين. لقد شكلت الحملة صدمة حضارية قوية لقدومها بصحبة علماء وفنانين وباحثين لاستكشاف مصر، جنبًا إلى جنب مع الهدف العسكرى بغرض احتلالها لقطع طريق الإمبراطورية البريطانية إلى الهند، وإن مهدت فى الوقت نفسه لاختيار محمد على واليًا. ومثلما اخترت بونابرت للبداية، توقفت عند السيسى لتأثيره الفاعل كرئيس لمصر فى السنوات الماضية، مع معرفتى بصعوبة التورط فى رصد اللحظة الراهنة، وإن كنت قد كتبت عنه مسبقًا باعتبارى صحفيًا متابعًا، على العكس من الكتابة عن الرئيسين السابقين السادات ومبارك حيث سبق لى الكتابة عنهما مطولًا فى كتابين.
- كيف تتنقل بين مهامك الثلاثة كصحفى وروائى وراوى للتاريخ كما تميل لوصف مهمتك رافضًا صفة المؤرخ؟
أرى أنها ثلاث مهن متسقة غير منفصلة لخدمة القارئ، حيث أكتب تاريخًا انتهى لفهم ما يجرى فى اللحظة الراهنة على الرغم من كونى غير متخصص فى علم المصريات أو التاريخ، ولا يمكننى إطلاق صفة المؤرخ على ما أقوم به، ولكن ربما قد يجد البعض سهولة فى تصنيفى كمؤرخ، بينما تتيح الرواية التحرك بحرية فى عالم متخيل أصنعه بنفسى أتناول فيه جميع وجهات النظر على ألسنة الشخصيات المختلفة، بينما أولد فى الصحافة مع الأحداث اليومية التى يجب جمع تفاصيلها قبل كتابتها وتحليلها والتعليق عليها بموضوعية ما أمكن فى ضوء النظرة العامة.
وتختلف إعادة كتابة التاريخ عن الكتابة للصحافة وإلحاحها، حيث يتواجد ألف مصدر مع إمكانية إعادة النظر تنقلًا بين المطبوعات، والأرشيف، والمذكرات الشخصية، أو الوثائق الرسمية، وآراء آخرين، وما يصاحب ذلك من بهجة اكتشاف كتاب قديم أو نادر والتنقل بينه وبين شاشة الكمبيوتر، الذى كان بمثابة ثورة فى سبيل التوصل إلى الحقيقة التى تبدو مع ذلك صعبة المنال.
عند الكتابة عن مصر، أرتدى ثلاث قبعات حيث أتنقل بين تقنيات الصحافة والرواية والتاريخ، التى أرى كل منها تخدم الأخرى. كونى صحفيًا محترفًا منحنى تقنيات البحث والترتيب والتحليل السريع، بينما ساعدتنى تقنيات الرواية فى إضافة لمسات الوصف الدافئة، أما التاريخ فهو الذى يعضد ما أكتبه ويلفه بالعمق المطلوب الذى يستفيد من مهارات الباحث الصحفى، وهكذا تدور المهن الثلاث فى تكامل أتنقل فيما بينه فى حياتى العادية باعتبارى شخصًا محترفًا؛ لأننى على الرغم من التقاعد عن الكتابة لجريدة لو موند، إلا أننى أكتب بانتظام لجريدة أسبوعية، وأقدم برنامجًا إذاعيًا، وأنشر مقالات بين الحين والآخر إلى جانب مهام العمل على رواية أو كتاب، ويسعدنى التنقل والراحة فيما بينهم، وعلى الرغم من صعوبة كتابة الرواية من خلق عالم وشخصيات والعمل عليها، إلا أنها معاناة ممتعة حيث لا توجد قواعد إلا ما تفرضه القصة وما يريده كاتبها من إثارة مشاعر القارئ وإمتاعه وحثه على التفكير والتعلم.
ويتم كل هذا فى ضوء اهتمامى بتاريخ العلاقة بين فرنسا ومصر، وهو موضوع يلمسنى شخصيًا باعتبارى نتاج للفرانكفونية المصرية، وأحاول بطريقتى، بناء الجسر بين البلدين أو الثقافتين من خلال كتبى، وحضور لقاءات واجتماعات وأنشطة متعددة، بينما أبتهج كلما فتحت مصر أبوابها ونوافذها لتتفاعل وتطل على العالم الخارجى، ويصيبنى اليأس كلما رأيتها منطوية على نفسها رافضة الآخر تحت ضغط أفكار متطرفة أو انتقاص من حريات. لا شئ مما يحدث فيها بعيدًا عن دائرة اهتمامى، ومن هذا المنطلق، أشعر بأننى منتميًا جادًا إلى هذا البلد. لم تعد مصر مجرد وطن البدايات، ولكنها أصبحت موضوعًا وشغفًا للدراسة، وتحولت إلى حديقتى السرية الممتعة، وشغفى المختار فى الكتابة حيث أعمل لخلق قطعة فسيفساء تسهم فى فهم لوحة مصر. ومنذ صدور روايتى الأولى، ومع الاستمرار فى الكتابة عن مصر وحولها دون توقف، كانت مهمة إعادة رؤية تاريخ المجتمع المصرى لفهم حاضره وربما مستقبله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.