لم يكن قرار الرئيس الأمريكى ترامب بانسحاب قواته من سوريا مفاجئا فقد كان أحد وعوده الانتخابية، كما أثاره منذ ستة أشهر، ولكنه تراجع عن القرار تحت وطأة ضغوط المؤسسات الأمنية الأمريكية وعلى رأسها البنتاجون التى اعتبرت أن الانسحاب سوف يقوض جهود التحالف فى محاربة تنظيم داعش، غير أن ما دفع ترامب إلى اتخاذ القرار وإصراره عليه رغم المعارضة الشديدة، سواء من وزارة الدفاع، مما دفع لاستقالة الوزير جيمس ماتيس، أو معارضة أعضاء فى الكونجرس الأمريكى من الجمهوريين والديمقراطيين، محذرين من عودة داعش مرة أخرى وأن الانسحاب الأمريكى سوف يترك فراغا كبيرا ستسعى كل من إيران وروسيا لملئه، هو أن ترامب يواجه ضغوطا داخلية شديدة سواء بسبب قضية التدخل الروسى فى الانتخابات التى اقترب المحقق الخاص موللر من تقديم التقرير النهائى حولها وتزايد احتمالات تورط أعضاء من فريق ترامب الانتخابى فى هذه القضية، وزادت هذه الضغوط بعد فوز الديمقراطيين بمجلس النواب وتزايد معوقات تمرير مشروعاته. وقد أراد ترامب الخروج من تلك الضغوط وبمنطق القيادة من الخلف بالظهور أنه يفى بوعوده باعتبار أن معركته الكبرى وأولويته الرئيسية الآن هى الاستعداد لانتخابات الرئاسة فى 2020. تداعيات الانسحاب الأمريكى من سوريا بعضها إيجابى وبعضها سلبى، فمن الناحية الإيجابية أنه يعد خطوة فى تأكيد سيادة سوريا واستقلالها وخروج قوات أجنبية لم تأت بموافقة الدولة السورية وربما هذا يمهد الطريق أمام استعادة الجيش السورى ما تبقى من أراض غير خاضعة له خاصة فى منطقة شرق الفرات التى تمثل مساحة كبيرة تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية بعد أن حررتها من تنظيم داعش الإرهابى. لكن التداعيات السلبية تتمثل فى أن هذا الانسحاب سوف يترك فراغا كبيرا ستسعى لملئه قوتان إقليميتان لديهما أجندات خاصة ومشروعات تخدم مصالحهما وتتعارض مع مصلحة الشعب السورى. الأولى إيران والتى تسعى لإقامة ممر برى من طهران إلى الضاحية الجنوبية بلبنان مرورا بسورياوالعراق، وهو ما يكرس مشروع النظام الإيرانى فى توسيع تمدده ونفوذه فى المنطقة مستغلة حالة السيولة التى عاشتها سورياوالعراق، وهو ما يشكل تهديدا للأمن القومى العربى ويقوض فرص تحقيق الأمن والاستقرار فى سوريا نتيجة لارتكان المشروع الإيرانى على اعتبارات طائفية، يدعم من خلاله النظام الإيرانى جماعات وميليشيات طائفية تدين بالولاء له وليس للدولة الوطنية التى توجد فيها، بل يقوض من أسس تلك الدولة لأن هؤلاء الفواعل من غير الدول يشكلون خطرا حقيقيا على مفهوم الدولة سواء من حيث امتلاكهم الأسلحة أو من حيث توجهاتهم وولاءاتهم، وحزب الله فى لبنان وميليشيا الحوثى الانقلابية فى اليمن والميليشيات الشيعية فى العراق خير مثال ذلك. القوة الإقليمية الثانية هى تركيا التى تسعى لإقامة مشروعها الخاص فى شمال سوريا تحت غطاء محاربة وحدات الحماية الكردية، عصب قوات سوريا الديمقراطية التى تصفها بأنها إرهابية وتمثل امتدادا لحزب العمال الكردستانى، وقامت بالفعل عبر عدة عمليات مثل درع الفرات وغصن الزيتون بالسيطرة على العديد من المدن والبلدات السورية فى الشمال مثل جرابلس وعفرين وغيرهما، وبالتالى يسهم الانسحاب الأمريكى فى إغراء أردوغان بالمزيد من التوسع باقتحام مدينة منبج والسيطرة على مساحات كبيرة فى شمال شرق سوريا، خاصة أن وجود القوات الأمريكية كان عاملا محجما لهذا التوسع، وبالتالى يظل الوجود التركى فى شمال سوريا دائما تحت دعاوى وذرائع محاربة التنظيمات الكردية، وهو ما يمثل عائقا أمام استعادة الدولة السورية كامل أراضيها. رغم أن الوجود الأمريكى فى شرق الفرات كان محدودا عبر ألفى جندى معظمهم من أصحاب المهام الخاصة، فإن هذا الانسحاب قد يكرر سيناريو انسحاب أوباما من العراق فى عام 2011 وهو ما سمح بعودة داعش وسيطرتها على ثلث مساحة العراق فى عام 2014، وبالتالى الخطورة أن تستغل الأطراف الأخرى هذا الانسحاب فى محاولة لتوسيع نفوذها وتغلغلها وصراعاتها، مثل تصاعد الصراع بين إيران وإسرائيل، والأخطر أن يستغل تنظيم داعش هذا الصراع وهذه الاستقطابات للعودة مرة أخرى. وإذا كان هذا الانسحاب يصب فى مصلحة وحدة سوريا وسيادة أراضيها، فإنه ينبغى أن يكون فى إطار أشمل يؤدى إلى خروج جميع القوات الأجنبية الأخرى من سوريا، خاصة القوات الروسية والإيرانية والتركية وقوات حزب الله وغيرها، وفى إطار تسوية سياسية تفضى إلى حل سياسى دائم يضم جميع أطياف الشعب السورى لتقرير مصير بلدهم واستعادة سيادته والحفاظ على وحدته وإعادة بناء دولته خاصة بعد تجربة الحرب المريرة التى كان الشعب السورى فيها الخاسر الأكبر من ملايين القتلى والجرحى واللاجئين والمهجرين وتدمير بنيته الأساسية والعمل على إعادة الإعمار وإعادة المهجرين. درس سوريا هو أن الشعب السورى وحده من يقرر مستقبله، وأن الوجود الخارجى كان عاملا سلبا فى تعقد الأزمة وإطالتها وتحولها لساحة لصراع الأجندات والمصالح، وأن الخروج من تلك الدوامة لن يكون إلا بخروج جميع القوات والميليشيات الأجنبية، وإعادة بناء الدولة الوطنية السورية. لمزيد من مقالات د. أحمد سيد أحمد