كم يكون اللقاء ممتعاً مع أصحاب العقول والخبرات الممتدة عبر الزمان والمكان..تحت هذا المفهوم كان لقائى بإحدى الشخصيات الألمانية التى تحب مصر والتى استوطنتها وهو الهر فولكهارد ويندفور والذى تخطى عمره الذى نتمناه مديداً الثمانين عاماً والذى يتحدث ست لغات منها العربية بطلاقة حيث إنه حاصل على الثانوية العامة من مصر وهو يشغل منصب رئيس جمعية المراسلين الأجانب فى مصر وكذا رئيس جمعية أصدقاء السكك الحديدية المصرية. كان لقاءا ممتعاً أعاد للذاكرة ما كان قد سقط منها بفعل تقدم السن أو حداثته، تمحور لقاؤنا حول مصر بقديمها وحديثها بدءاً من فن الكتابة الذى تم اختراعه فى مصر القديمة منذ نحو خمسة آلاف سنة على وجه التقريب.يؤكد علماء التاريخ أن أول دولة عرفتها الإنسانية نشأت فى مصر أيضاً تحت اسم كيما أوكيمت قبل بابل والصين وغيرها..قائمة الابتكارات التى فاجأ بها شعب وادى النيل عالم ما قبل التاريخ طويلة قد يرجع الفضل فى سرعة انتشارها إلى موقع مصر الجغرافى المميز على البرزخ (المضيق البري) القصير المسافة الذى يفصل البحر الأحمر عن البحر الأبيض المتوسط فى منطقة قناة السويس الحالية والتى تربط قارة إفريقيا بقارة آسيا وأوروبا أيضاً بطريقة غير مباشرة وهو ما يفسر فى نفس الوقت نشوء علاقات مصر بالعالم الخارجى مبكر وتأثير الثقافة والتجارة المصرية على جيرانها فى المشرق وآسيا الصغرى وبلاد ما بين النهريْن وإثيوبيا والسودان وجبال الحبشة ومناطق جنوب الصحراء الكبرى وقبرص وجزيرة كريت وجزر بحر إيجا. أما فى العصر الحديث فقد ظهر الدور الطليعى لمصر فى التعامل مع القاطرة البخارية والسكك الحديدية التى هيمنت على أنشطة البشر قرنيْن من الزمن حيث استخدمتها مصر قبل غيرها من البلدان بعشرات السنين مثل اليابان والصين، فسيرت أول قطار فى القارة الإفريقية والشرق الأوسط عام 1854 من الإسكندرية إلى القاهرة مما تطلب عبور فرعى رشيد ودمياط لنهر النيل بالمعديات، وقد شاء القدر أن أول حادثة مع السكة الحديد وقعت فى مصر أيضاً عندما سقطت عربات أحد القطارات فى فرع النيل قرب كفر الزيات وكان من ضحايا هذه الحادثة المؤلمة أمير من أسرة محمد على الحاكمة، ولكن لم يتوقف تطور النقل على القضبان حيث تم إنشاء شبكة متكاملة من خطوط السكك الحديدية فى كل الاتجاهات فسرعان ما ظهرت فى مصر العربات الفاخرة للشركة الدولية لعربات النوم التى كانت فى انتظار الركاب القادمين من أوروبا فى مواقع البواخر مباشرةً على رصيف رقم 6 الشهير فى ميناء الإسكندرية. ازدهر عصر السكة الحديد وغير الكثير من المفاهيم، فمن أشهر الانجازات للسكك الحديدية فى مصر تسيير قطار دولى غادر محطة القاهرة الرئيسية (محطة رمسيس) فى السابعة صباح كل يوم سبت من رصيف رقم واحد عابراً قناة السويس ومتجهاً إلى فلسطينوسوريا وتركيا ثم عبر البوسفور فى القسطنطينية, اسطنبول, ليصل إلى باريس ومحطة فيكتوريا لندن، فى حين انطلق قطارٍ آخر من القاهرة إلى القدس فى مواعيد ثابتة، غير أن الرحلة بالقطار إلى السودان تعذر بعض الشئ لأن شبكة السودان الحديدية كانت تعتمد على خط حديدى ضيق، وشبكة السودان التى أنشأها الانجليز امتدت شمالاً حتى وادى حلفا فقط بالقرب من الحدود المصرية غير أن آخر محطة مصرية كانت فى أسوان. بعد الانتهاء من بناء السد العالى عام 1960 مدت الهيئة القومية لسكك حديد مصر الخط الحديدى إلى السد نفسه وأنشأت فوق جسم السد محطة إفريقيا المطلة على بحيرة ناصر(بحيرة السد). حذت معظم الدول العربية حذو مصر وأنشأت شبكات سكك حديدية خاصة بها بخطوط عرض مختلفة ولم تهتم بربط شبكاتها بخطوط حديدية فى الدول الجارة إلا فى حالات نادرة سمحت بتسيير بعض القطارات الدولية الشهيرة مثل قطار الشرق السريع وقطارات سكة حديد بغداد وربطت عدداً محدوداً من بلدان الشرق الأوسط بعواصم أوروبية مختارة إلى جانب سكة حديد الحجاز التى كانت عبارة عن خط سكة حديد ضيق أنشأته الإمبراطورية الألمانية قبل الحرب العالمية الأولى لربط دمشق عاصمة ولاية سوريا العثمانية بالمدينة المنورة ولم يعد هذا الخط يستخدم إلا أجزاء منه فى الأردنوسوريا. تغيرت السياسة والأولويات الاقتصادية فأصحاب القرار فى القاهرة يًحيون أفكاراً ومخططات قديمة بهدف عودة الروح لمشروعات ربط بلاد الفراعنة بدول الجوار بالسكة الحديد مع التركيز على السودان وليبيا وتونس والأردنوسورياوفلسطين والعراق والخليج ولكن بدءاً بمشروع مهم للغاية تأخر كثيراً رغم فائدته الاقتصادية الكبيرة على المدى البعيد وهو ربط شبكتى مصر والسودان الحديدية..وللحديث بقية. لمزيد من مقالات د. نادر رياض