فى عام 2010 صدر كتاب عن الفيلسوف الانجليزى جون لوك من القرن السابع عشر عنوانه «رفاق موالون للوك». عددهم خمسون، ستة وأربعون تفرغوا لبيان المفاهيم الأساسية التى تدور حولها فلسفة لوك فى سياق مؤلفاته، والأربعة الباقون انشغلوا ببيان تأثير لوك. وأظن أن المبرر فى إصدار مثل هذا الكتاب الآن مردود إلى التدليل على أن قيمة الفيلسوف تكمن فى مدى قدرة أفكاره على إحداث تيار يسهم فى تغيير النسق القائم عندما يدخل فى أزمة. ومن هنا قيل عن لوك إنه ابن الاصلاح الدينى وأبو التنوير. فقد وُلد عندما كانت الجامعات منشغلة بتجديد خطاب أرسطو ومات عندما بدأت الجامعات فى فهم نظريات نيوتن. ووُلد عندما كانت انجلترا ضعيفة ومات عندما أصبحت قوة امبريالية كوكبية. ووُلد مع بداية الدعوة إلى مشروعية الحق الإلهى للحاكم ومات مع بداية التشكيك فى هذا الحق الملازم للاعتقاد فى حقيقة مطلقة على نحو ماترى المؤسسات الدينية من أجل التحكم فى الرأى العام. إلا أن لوك لم يكن وحده أباً للتنوير فقد سبقه أستاذه ديكارت الذى كان يلقب بأنه أبو الفلسفة الحديثة لأنه أحدث تأثيراً فى التراث و الايمان و السلطة الدينية، ومن ثم أصبح كل شيء موضع تساؤل فى سياق العلمانية والتنوير. والمفارقة هنا أنه قبل موت ديكارت فى عام 1650 كانت نظرية كوبرنيكس عن دوران الأرض حول الشمس موضع حوار حاد. بل إن الفيلسوف الهولندى سبنوزا الذى كان معاصراً لديكارت قد واجه عزلة فلسفية وهو يدعو إلى شفاء العقل وتطهيره لكى يعرف حقيقة الكون، وإلى أن أفكاره بسيطة وخالية من التعقيد، ومن ثم فجوهر الأشياء واحد مهما تعددت. والمعنى الخفى فى هذه الدعوة أنه لافرق بين الله والطبيعة إذ هما واحد بحكم أن الجوهر واحد، وقد ترتب على هذا الاعلان مسألتان. المسألة الأولى أنه إذا كان التأويل فى فهمنا للطبيعة مشروعاً فتأويلنا للنص الدينى مشروع بالضرورة. والمسألة الثانية والمترتبة على المسألة الأولى أن القول بالحق الإلهى للحاكم قول زائف لأنه مع مشروعية التأويل لايحق لأحد القول بأنه يملك الحقيقة المطلقة وأنه ليس فى حاجة إلى التأويل. أما الفيلسوف الفرنسى بسكال الذى كان معاصراً لديكارت ولوك وسبنوزا، والذى كان متأثراً بديكارت فى العلوم الرياضية فإنه انفرد بفهم المسألة الدينية التى تناولها فى كتابه المعنون «الدفاع عن الدين» والمكون من جزءين. والذى يهمنا هنا هو الجزء الثانى الذى يتناول فيه وجود الله والبراهين العقلية على وجوده وينتهى إلى التشكيك فى صحة هذه البراهين لأنها ليست فى قدرة العقل، والبديل ما يطلق عليه بسكال حجة الرهان وتعنى أن مسألة وجود الله لا علاقة لها بالبرهان العقلى إنما لها علاقة بالمكسب والخسارة، وهى على النحو الآتي: إذ راهنت على أن الله موجود كسبت الحياة الأبدية، وإذا لم يكن موجوداً فإنك لن تخسر شيئاً. والسؤال اذن: ما التنوير؟ سؤال أثاره الفيلسوف الألمانى كانط فى مقال نشره فى عام 1784 ويعَرفه بأنه تحرر الانسان من اللارشد، واللارشد يكمن فى عجز الانسان عن الإفادة من عقله من غير معونة الآخرين. وسبب هذا العجز مردود إلى نقص فى الجرأة فى إعمال العقل. ومن هنا كان شعاره عن التنوير كن جريئاً فى إعمال عقلك. إلا أن العقل وهو يُعمل ذاته يمارس نقد ذاته، ومن ثم يكون للمتنور عقلان: عقل يفكر وعقل ينقد. العقل الأول مهمته قنص المطلق، أما العقل الثانى فمهمته إقناع الأول بأنه عبثاً يحاول. وإذا توهم العقل الأول بأن فى إمكانه قنص المطلق فإنه يسقط فى الدوجماطيقية التى تعنى توهم امتلاك الحقيقة المطلقة. ومع ذلك فإن العقل الثانى كفيل بتحرير الانسان من هذا الوهم. ومن هنا يمكن القول إن التنوير مؤسس على العلمانية، ومن ثم تكون هى المانع من تحول ما هو نسبى إلى ما هو مطلق وذلك لأن العلمانية بحسب تعريفى هى التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق. وفى القرن التاسع عشر نشأت الليبرالية التى تهتم بالعلاقة بين الفرد والمجتمع. وقد انشغل الفيلسوف الانجليزى مِل بالبحث فى هذه العلاقة فى كتابه المعنون «عن الحرية» والحرية عنده تكمن أولاً فى تحديد العلاقة بين الحكام والمحكومين، وتكمن ثانياً فى تحديد العلاقة بين الفرد والمجتمع. عن العلاقة الأولى يكون المحكومون مهمومين بالدفاع عن أنفسهم وذلك للحد من سلطة الحكام إلا أن ثمة ظاهرة جديدة بزغت بين المحكومين وهى فئة من الشعب زعمت أنها الأغلبية وراحت تقهر الأقلية، الأمر الذى أدى بهذه الأغلبية إلى الطغيان وأطلق عليها مِل طغيان الأغلبية، ثم تطور هذا الطغيان إلى طغيان الرأى العام وهو يعنى الزعم بأن من حق المجتمع أن يطلب من جميع أعضائه الانصياع للرأى العام. ومعنى ذلك أن ما يقوله الرأى العام هو حقيقة مطلقة. ومن هنا قال مِل إن سلطة الفرد أقوى من سلطة المجتمع. ويترتب على ذلك أن يكون المجتمع على اقتناع بأن الرأى المعارض للرأى العام يمكن أن يكون صائباً. ومع ذلك واجهت الليبرالية ما واجهته العلمانية من إشكالية فى علاقتها بالدين فما هى هذه الإشكالية؟. لمزيد من مقالات د. مراد وهبة