والسؤال اذن: ماذا حدث للعلمانية من تطور بعد إعلان كوبرنيكس عن نظرية دوران الأرض حول الشمس فى القرن السادس عشر؟ تأسست نظرية العقد الاجتماعى فى القرن السابع عشر لتدمير مبدأ الحق الإلهى للملك، بمعنى أن ليس من حق الملك الزعم بأن سلطانه مستمد من سلطان الله، إذ هو مستمد من سلطان الشعب. ويلزم من ذلك أن يكون سلطان الحكم سلطاناً نسبياً وليس سلطاناً مطلقاً. ويلزم من ذلك أيضاً أن المفاهيم المترتبة على العقد الاجتماعى تكون مفاهيم نسبية بالضرورة لأن مصدرها عقد بين الشعب والحاكم يتنازل فيه الشعب عن بعض حقوقه للحاكم فى مقابل أن يكون الحاكم مسئولاً عن الأمن والأمان. ويأتى فى مقدمة مفاهيم العقد الاجتماعى مفهوم التسامح. وقد حرر الفيلسوف الانجليزى جون لوك « رسالة فى التسامح» نشرها فى عام 1689 ثم ألف رسالة ثانية فى التسامح فى يونيو عام 1690، ورسالة ثالثة فى يونيو عام 1692 دون ذكر اسمه فى الطبعات الثلاث وسبب ذلك مردود إلى أنه قد اتهم بالتورط فى مؤامرة ضد الملك فهرب من انجلترا إلى هولندا. والسؤال بعد ذلك: ماذا يعنى التسامح عند جون لوك؟ ثمة عبارات « فى رسالة التسامح» كاشفة عن معنى التسامح، وأنا أنتقى منها أربع عبارات هى على النحو الآتي: ليس من حق أحد أن يقتحم- باسم الدين- الحقوق المدنية والأمور الدنيوية. فن الحكم ينبغى ألا يحمل فى طياته أى معرفة عن «الدين الحق». خلاص النفوس من شأن الله وحدة. الله لم يفوض أحداً فى أن يفرض على أى انسان ديناً معيناً. والسؤال بعد ذلك: ما مغزى هذه العبارات؟ مغزاها أن التسامح يستلزم ألا يكون للدولة دين معين حتى لو كان هذا الدين، من بين الأديان الأخري، هو دين الأغلبية لأنه لو حدث غير ذلك، أى لو كان للدولة دين الأغلبية فتكون هذه الأغلبية طاغية بحكم طبيعة الدين من حيث هو مطلق. والطاغية بحكم كونه أفرازاً من المطلق هو مطلق بالضرورة. وفى هذا السياق يمكن فهم التناقض الحاد بين جون لوك ومعاصره روبرت فيلمر. فماذا قال فيلمر وماذا كان رد لوك؟ ما قاله فيلمر جاء فى كتابه المعنون: النظام البطريركي، أى النظام المحكوم بالرجل الذى هو الأب. والأفكار الواردة فيه مستندة إلى ماجاء فى سفر التكوين من أن الله منح السلطة المطلقة لآدم ثم ورَثها لأبنائه. ومن هنا قيل عن هؤلاء الورثة إنهم بطاركة، أى آباء، أى رجال. ثم قيل عنهم بعد ذلك إنهم ملوك وحكام. وكان لوك على وعى بنظرية فيلمر عن الحق الإلهى ومن ثم نشر رداً عليه فى كتاب عنوانه «رسالتان فى الحكم». وكان لهذا الكتاب تأثير عميق على فلاسفة التنوير فى أوروبا وفى أمريكا. فقد أعيد طبعه فى باريس فى القرن الثامن عشر، كما طبع فى بوسطن فى القرن نفسه. وما يهمنا هنا هو الرسالة الأولى التى يفند فيها لوك المبادئ التى يستند إليها فيلمر فى تحليله النظام البطريركي. ويأتى فى مقدمة هذه المبادئ أن الانسان يولد حراً، ومن ثم فإن أى نظام حكم يلزم أن يستند بالضرورة إلى عقد اجتماعى معتمد من جماعة بشرية لتأسيس مجتمع يكون من صنع العقل. ومن هنا لا تكون القوانين من صنع الملوك إنما من صنع البشر. ومن حيث إنها من صنع البشر فإنها بالضرورة تكون خاضعة للمراقبة من قبل السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. وإذا اعتدت السلطة التنفيذية على حرية الشعب يكون من اللازم سحبها ممن يمثلونها. بل إن لوك يذهب إلى أبعد من ذلك فيقول إنه إذا ارتأى المواطنون أن الطاغية قد أفرط فى الطغيان وذلك عندما يستعبدهم فعليهم بإعلان العصيان المدني. وإذا تساءلت بعد ذلك عمن ألهم فيلمر فكرة الحق الإلهى للملك، فجواب لوك أن هذه الفكرة من اختراع علماء اللاهوت، وهى فكرة فى رأيه وهمية لأنها تصور الحاكم كأنه يحيا فى عالم مجاوز للطبيعة. وقد طور الفيلسوف الانجليزى جون ستيوارت مِل مفهوم التسامح فى كتابه المعنون عن الحرية (1859). إذ ارتأى أن التسامح يمتنع معه الاعتقاد فى حقيقة مطلقة. يقول: إن الحرية الدينية تكاد لا تُمارس إلا حيث توجد اللامبالاة الدينية التى تنبذ إزعاج سلامها بعلم اللاهوت فى المسيحية وعلم الكلام فى الاسلام، إذ إن وظيفة كل منهما تحديد بنود الايمان ومن ثم فأنت لا تكون مؤمناً إلا إذا التزمت هذه البنود وإلا فأنت كافر. وإذا أردت مزيداً من الفهم فاقرأ المادة الثانية من الدستور المصرى، إذ هى تنص على أن للدولة دينا هو دين الأغلبية وهو الاسلام. وعندما استولى الاخوان المسلمون على الحكم فى عام 2012 كانت المادة الثانية متسقة مع ما توهموه من لزوم تطبيق الشريعة الاسلامية على الكل بلا استثناء، ومن ثم اشتعلت ثورة 30 يونيو2013 لأن التسامح قد توارى إلى حد الاختفاء وتفكك المجتمع، وأصبح الكل فى حالة هجرة سواء كانت خارجية أو داخلية وتاه العقد الاجتماعى المؤسس على العلمانية. والجدير بالتنويه أنه فى عام 2010 صدر كتاب عن لوك عنوانه «رفاق موالون للملوك».. فما المبرر؟!. لمزيد من مقالات د. مراد وهبة