منذ سقوط القنبلة الذرية على هيروشيما فى أغسطس 1945 والسؤال هو على النحو الآتي: هل هذا السلاح مهدد للدولة- الأمة؟ إنه فى جوهره رمز على صراع سياسى كامن بين الدول، وهذا معناه أن السلاح النووى ليس هو السبب، أى أن الدولة لا تحارب لأنها تمتلك سلاحاً نووياً، بل على الضد من ذلك، إذ يمكن القول إنها تمتلك ذلك السلاح لأنها تعتقد أنها ذات يوم يمكن أن تكون فى حاجة ضرورية إليه. وبعد ذلك يثار السؤال الآتي: كيف يمكن إزالة هذه الصراعات؟ للجواب عن هذا السؤال يلزم البحث عن جذورها. ومن هنا يلزم البحث عن جذور نشأة الدولة الحديثة التى هى الدولة- الأمة. وقد قيل فى هذا الشأن إنها كامنة فى تأمين الهوية والمحافظة على الشرعية. واللافت للانتباه أن الشرعية سابقة على الهوية منذ أرسطو وحتى الآن. ومع التطور لم يكن هذا القول ممكناً ومن ثم كان البديل هو تأسيس عقد اجتماعى بموجبه يتنازل المواطنون عن بعض حقوقهم للحاكم فى مقابل منحهم الأمن والأمان. ومع ذلك توهم الحاكم أن حقه فى الحكم هو حق ممنوح له من الله، أو هو ممنوح له من الإرادة العامة التى هى أساس العقد الاجتماعى بين الحاكم والمحكومين بعد إنهاء الحق الإلهى للحاكم، إلا أن هذه الإرادة العامة قد تحولت إلى إرادة مطلقة لدى صاحب السلطة السياسية فأصبح هو بالتالى رمزاً على المطلق. ولا أدل على صحة هذا القول من بزوغ النازية. فقد زعم هتلر إثر استيلائه على الحكم فى عام 1933 أن الجنس الآرى هو أرقى الأجناس وهو الذى من حقه أن يحكم العالم. وإثر إعلان هذا الزعم دخلت النازية فى حرب عالمية. وإذا كان ذلك كذلك فمعنى ذلك أن الدول تدخل فيما أسميه صراع المطلقات لأن كل مطلق يريد إزالة المطلق الآخر، إلا أن هذه الإزالة لن تتم إلا بحرب نووية. وفى هذا السياق أيضاً يبزغ مفهوم العدو المطلق. ويصبح السؤال بعد ذلك كامنا فى كيفية إزالة هذا العدو المطلق. وهذه الكيفية كامنة بالضرورة فى إزالة مطلقية الدولة أو بالأدق مطلقية الدول, وهذه الدقة مطلوبة بحكم أن الأصوليات الدينية فى القرن الحادى والعشرين هى فى الطريق إلى التحكم فى الدول ما لم نعثر على البديل. ولا أدل على صحة هذا القول مما هو حادث فى هذا الزمان من زوال دول ودخول دول فى صراعات داخلية متشابكة مع صراعات خارجية إلى الحد الذى يمكن فيه القول إن الكل فى صراع ضد الكل وهو أمر من شأنه أن تكون الحضارة ذاتها مهددة بالأفول. والسؤال إذن: كيف يمكن الخروج من هذه الزنقة الكوكبية؟ قد يكون الجواب كامنا فى إشاعة مفهوم التسامح على نحو ما دعا إليه الفيلسوف جون لوك من القرن السابع عشر. إلا أن هذا المفهوم ينطوى على تناقض، كامن فى السؤال الآتي: هل فى إمكان المتسامح أن يتسامح مع اللامتسامح الذى يتسم بالأصولية الدينية التى هى تتسم بالمطلقية؟ والمفارقة فى هذا السؤال هو أنه يردك إلى ما أنت تريد إزالته وهو المطلق الكامن فى الأصولية أيا كانت سمتها الدينية. التسامح إذن ليس هو المخرج فما المخرج اذن؟ أظن أنه كامن فى نقيض المطلقية وهو النسبية. ومع ذلك فهذا النقيض مازال غامضاً لأنه إذا كانت المطلقية فى هذا الزمان متمثلة فى الأصولية الدينية المطلوب إزالتها ففيم تكون النسبية متمثلة؟ أظن أنها تكون متمثلة فى تعريفى للعلمانية بأنها «التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق». والسؤال إذن: ما هو المصدر الذى استعنت به فى هذا التعريف للعلمانية. إنها نظرية دوران الأرض عند كوبرنيكس من القرن السادس عشر ومفهوم التنوير عند كانط من القرن الثامن عشر، ومفهوم الكوكبية فى هذا القرن من الزمان. والسؤال إذن: ماذا تعنى نظرية كوبرنيكس؟ إنها تعنى أن الأرض لم تعد مركزاً للكون. وبالتالى لم يعد الانسان مركزاً للكون، ومن هنا لم يعد من حقه الزعم بأنه قادر على امتلاك الحقيقة المطلقة. ومن هنا أيضاً يتحرر عقل الانسان من هذا الزعم وبذلك يصبح العقل سلطان ذاته. وهذا هو مغزى التنوير على نحو فهمى لكانط. استناداً إلى عبارته المأثورة «كن جريئاً فى إعمال عقلك». وقد ترتب على هذا التنوير بزوغ الثورة العلمية والتكنولوجية فى القرن العشرين وامتدادها إلى الكوكبية فى هذا القرن. والمقصود بالكوكبية أن كوكب الأرض ينطوى على وحدة بلا تقسيمات ومن ثم تتداخل الدول فى بعضها البعض ومن ثم يتوارى شعار الاستقلال التام أو الموت الزؤام ويحل محله الاعتماد المتبادل. هل هذا ممكن؟ وإذا لم يكن ممكناً فعلى مَنْ يهمه الأمر البحث عن جواب. لمزيد من مقالات ◀ د.مراد وهبة