ممدوح فرّاج النّابى رسمت المخيّلة الاستشراقيّة صورة للشرقى على عكس الصّورة الحقيقيّة التى هو عليها فى واقعه الأرضى - المعيشى، وقد انبرت تصوراتهم وفق ما جاء فى حكايات ألف ليلة وليلة، التى غذّت التصوّرات الغربيّة بمغالطات (أو أوهام) عن حقيقة الشرق، فبدا الرجال والنساء أشبه برجال يخرجون من بطون الحكايات، يرفلون فى النعيم، والعيش الرغيد وسط الجاريات الحسان فى القصور الفخيمة ينعمون بالملذات من الطعام والشراب، ويستمتعون بأغانى المطربين والمطربات وهم ينظرون إلى الجمال فى صور الراقصات والغلمان العارية، وبصفة عامة صار الانطباع الكلىّ عن عالم الشرق بأنه «خيالى، شهوانى وعنيف»، كما أن الحريم التركى ارتبط فى المخيال الأوروبى ب«الاستغراق فى اللذة، والهوى الذى لا يمكن كبح جماحه». يوصف الأفريقى بأنه أسود اللون، بليد الطبع، متهاون منحل إدوارد سعيد: الاستشراق انعكست هذه التخيّلات أو التصوّرات (الذهنيّة) المبنية على مرجعية خياليّة من قبيل: «إن الحريم التركى مكان تُسجن فيه مئات النساء الجميلات ليستمتع بهن سيد واحد»؛ على إبداعاتهم، فجاءت الفنون حاوية لنساء من الشرق فى الأحاريم، وهن يلبسن «سراويل فضفاضة، كسراويل الرجال، وقمصانًا قصيرة»، أو أنهن «عاريات لا يرتدين سوى القليل من الثياب فى حال وجودها أصلا» على نحو ما ظهر فى لوحة «جورجيو جيورجون» المسماة «فينوس النائمة» 1510، وكذلك فى لوحات الوصيفات لماتيس، والوصيفة الكبرى (1814) والحمام التركى (1852) للفنان إنجر التى وصفها «إدوارد لوسى سميث» بأنها: «شبقيّة مزخرفة من نوع بالغ التعقيد.. إنها تمجيد للجسد الأنثوى الطاغى الحضور، أينما اتجه البصر عثر على الأجساد العارية التى تملأ فضاء اللوحة كما لو أن الفنان يكره الفراغ... تتسم هؤلاء النساء بشيء ما يقربهن من القطيع، ومن الحيوانات التى تجمع وتعرض لإرضاء السيد. وهذا الأخير يفرض نفسه بالقوة وليس بإمكانهن رفضه أيًّا كانت الظروف». فى مقابل هذه الصورة المُتقزّمة للشرق وعوالمه، ترتسم ضمن النزعة المركزية الأوروبيّة، صورة متضخمة للغرب، لدرجة كما يقول «خوسيه راباسا» «إن خريطة العالم التى رسمها الرحّالة والجغرافيون الأوروبيون، أكدت أن قارة أوروبا هى مركز ومصدر المعنى الحضارى الثقافى، ومصدر الغنى المكانى للعالم بأسرة». وقد سعت أدبيات (أو سرديات) ما بعد الاستعمار إلى مقاومة الإمبريالية بكافة صورها عبر سرديات مضادّة تفكّك مثل هذا التنميط والجاهزية لصورة الشرقى (أو الأفريقى)، ومثّل كتاب «الاستشراق» (1978) لإدوارد سعيد منعطفًا خطيرًا فى تفكيك المرويات الاستشراقية عن الشرق، أو رؤية الآخر وتنميطه، بكشفه النظرة الاستعلائية التى تضع الشرق فى مرتبة دونيّة مقابل الغرب السيّد، أو الرجل الأبيض المتعالى، والمؤمن بنسق من القيم الفكرية والدينيّة والأخلاقيّة التى توظف لإنقاذ «الآخر» من خموله وتخلفه». فالكتاب بصورة أو بأخرى كما يقول تلميذه برنن ركّز «على الأصداء التى ينتجها التمثيل نفسه». وتبعه بكتاب «الثقافة والإمبريالية» (1993)، والذى تحدّث فيه عن «الكتابات الأوروبية» وخطابها الاستشراقى، أو نحو أفريقيا والهند ... إلخ، كجزء من الجهد الأوروبى العام لتبرير حكم الأقاليم والشعوب البعيدة، إضافة إلى حديثه عن «الصّورة الخطابيّة التى تحيط خطابهم عن الشرق الغامض، أو الوصف التنميطى للعقل الأفريقى أو الهندى أو الصينى، وفكرة نقل الحضارة إلى الشعوب البدائية أو البربرية» فى مقابل «العقاب الضرورى للشعوب حينما لا تطيع، أو حينما تتمرد»، لأنهم «ليسوا» مثلنا، ولذا يستحقون أن نحكمهم»،ومنها أيضًا سرديات فاطمة المرنيسى كخطاب مقاوم ضدّ أوهام (تصوّرات الغرب) عن نظام الأحاريم، ونساء الشرق عمومًا، على نحو ما ظهر فى كتب «الحريم السياسى» (1987)، و«سلطانات منسيات»(2000)، و«شهرزاد ترحل إلى الغرب» (2001)، وغيرها من أعمال فكّكت المرويات الغربيّة المتحيّزة ضدّ المرأة الشرقيّة، وتنميطها فى شكل يتوافق مع المُخيّلة الغربيّة المهوسة بحكايات الليالى، وسعت إلى تقديم سردية مضادّة لما راج فى كتابات المستشرقين، أو حتى فى لوحات الفنانين عن الشرق وتحديدًا عن نسائه (أو عوالم الأحاريم المغلقة)، التى أغرت المخيّلة الغربيّة بكسر خصوصيتها باختلاق الكثير من المرويات والتصوّرات عن عوالمها المخفيّة. اقتحام المحراب الأبيض تحدّث إدوارد سعيد فى كتابه «الثقافة والإمبريالية» عن مفهوم «المصادرة» ودلالته الحاسمة فى تكوين أدب العالم الثالث، ورأى أن فعلة الطيب صالح فى «موسم الهجرة إلى الشمال» مصادرة لشكل روائى غربى استخدمه الغربيون للقيام باكتساح الفضاء الجغرافى للعالم الآخر واستعماره وامتصاصه، واستغلالاً له لتشكيل حركة مضادة: تقتحم الفضاء الإمبريالى نفسه، وتغزوه، وتقلب الأدوار فيه بلغة جديدة، وأبطال منتقمين، وبنية روائية محوّلة ومعدّلة الآن لكى تخدم أهداف كُتّاب العالم الثالث ذاتها، وتنقض الأصل المركزى الحواضرى. وقد تجلّت فى مروية «موسم الهجرة إلى الشمال» سمات السردية المضادّة التى تفكّك الصّورة الذهنية الغربيّة عن الشرق (وأفريقيا) عبر صور عديدة منها ما يأتى فى صيغة هدم وتفكيك لسردية الاستشراق التى روّجها عن الشرق (وأفريقيا). والحقيقة أن الطيب صالح أعدّ بطله «مصطفى سعيد» بهويته المُنْقَسِمة (أو المتشظيّة) لاقتحام الفضاء الإمبريالى نفسه، وإن كان صوّر لنا الاقتحام على أنه دون إرادة منه أى «قدريّ»؛ مراحل إعداد مصطفى سعيد وتهيئته لمصادرة الفضاء الإمبريالى، بدأت من قريته فى السودان، وتحديدًا فى تلك الحقبة التى كانت الإمبرياليّة الغربيّة هى المهيمنة ولها السُّلطة الحاكمة على المكان والسُّكّان، فمن ناحية هو نشأ تحت سلطة الاحتلال، وكان شاهدًا على جرائمه، ومن ناحية ثانية، نال رعاية الاحتلال ذاته، بأن تمّ اختياره للالتحاق بالمدرسة، ولذكائه الشديد أتقن اللغة، وصار يتحدث بها برطانة أشبه بالإنكليز أنفسهم، وهو ما نال عنه استحسانَ مَن قابلهم ومنهم «القسّ» الذى التقاه فى القطار، وتحدّث معه بالإنكليزيّة، وقال بدهشة: «إنك تتحدث اللغة الإنكليزية بطلاقة مذهلة». ومن هذه اللحظة بدأت مرحلة الإعداد والتجهيز للدخول إلى (مصادرة) عالم المحراب الأبيض، بإرساله إلى القاهرة ليدرُس فى مدارسها الثانوية التى تستوعب عقليته التى ضاقت عنها مدارس الخرطوم، بل وهيّأت له الإقامة لدى أسرة مستر روبنسن وزوجته، وقد لعبت مسز روبنسن (إليزابيث) كأم بديلة دورًا مهمًّا فى تغذيته بالثقافة الغربية كنوع من الانغماس فيها، والانسلاخ عن الثقافة الأصلانيّة (التى سيستخدمها ويوظفها فى حربه بالتحدّث عن روحانيات الشرق، وقراءة الشعر عن أبى نواس فى إكسفورد) فتعلّم منها: «حب موسيقى باخ، وشعر كيتس، (وسمع) عن مارك توين لأوّل مرة منها». هكذا تهيّأت للبطل كل ممكنات القوة (الإرادة والنبوغ) للدخول إلى عالم (أو فضاء) المحراب الأبيض الذى كان ينظر إلى الأسود نظرة دونيّة، ويقصر الذكاء على الأبيض، مما يحتم لأن يحل الاستعمار بديلاً عنهم ويمثّلهم؛ لأنهم كما يقول - كارل ماركس - «لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ولا بدّأن يمثّلهم أحد»، وبالأحرى لأن المستشرق الحديث كان يرى نفسه: «بطلاً ينقذ الشرق من العتمة والاغتراب والغرابة، ويرى أنه هو الذى نجح فى ذلك». ومن مرحلة التهيئة والإعداد إلى مرحلة اقتحام فضاء الآخر فى عقر داره؛ حيث الدراسة والتفوّق، ثم بزواجه من إنجليزية، استطاع البطل أن يكسر القاعدة القائلة «بأن الزنجى عبد لدونيته، والأبيض عبد لتفوقه»، فلم يعد التفوق حكرًا على الأبيض. فها هو مصطفى سعيد يُعيّن وهو فى الرابعة والعشرين «محاضرًا للاقتصاد فى جامعة لندن»، وقد نال شهرة عريضة بدعوته الإنسانيّة فى الاقتصاد وسط هذا الفضاء الإمبريالى. هذا النبوغ أو التفوّق بمثابة الحصانة التى حصّن بها المؤلف بطله ليكون قادرًا على الاقتحام أو الغزو(لاحظ دلالة عبارة «أنا الغازي» التى استخدمها فى المحكمة و«أنا الدخيل» التى تشير إلى اقتحام فضاء غير فضائه الجغرافى، وما تحمله من دلالة موازية بأن الغرب كان يومًا ما دخيلاً على فضائه) لمجرد أن ينال الاعتراف، فلا يكون المرء - كما يقول فانون - إنسانًا إلا بقدر ما يرغب فى فرض نفسه على إنسان آخر، لكى يجعله يعترف به» فما بالك بأن الآخر، هو الذى لا ينظر إليه إلا نظرة دونية، ومن ثمّ يكون الجهد مضاعفًا لأن «قيمته وحقيقته الإنسانيتين تتوقفان على هذا الآخر، على اعتراف هذا الآخر به (وبالأحرى) إن معنى حياته يتكثّف فى هذا الآخر» فلم يكتفِ أن نال بطله اعترافهم بتفوقهم، حيث استوعب عقله «حضارة الغرب» كما وصفه أستاذه ماكسول، وإنما استطاع تبديل مفاهيم التنميط والقولبة والجاهزية، وجعل من الأسود الذى كان موضوعًا لدى الآخر فى دائرة الاستبعاد. الأسود الوسيم من الصور المشينة (ومع الأسف رائجة) فى أدبيات الاستشراق، تلك التى تشير إلى وضع الأسود فى موضع الدونيّة، من خلال التمايز بين البيض والسود، فكما يقول فانون: «إن الوعى الجمعى لطالما ربط ما بين اللون الأبيض وكل المعانى الجميلة الجذّابة من نور وحقيقة وعدالة، وحضارة وإنسانية ومدنيّة، فيما يمثّل الأسود معانى البشاعة والخطيئة والظلام والفسق، وهى معانٍ نجدها حتى فى القواميس»، وفى مخالفة لهذه السردية الرائجة نجد المؤلف يُقدّم بطله مصطفى سعيد فى صورة الأسود الوسيم، باستثناء جين مورس التى تراه غير ذلك، فهى الوحيدة التى قالت له: «أنت بشع لم أر فى حياتى وجهًا بشعًا كوجهك»، وما قالته جين مورس بمثابة «خُدع الرغبة» بتعبير رينيه جيرار، لإخفاء حقيقة الرغبة وتجنّب مواجهتها. بصفة عامة تتحول صفة السوداء (النقيض للأبيض الغربي) من صفة انتقاص ودونيّة، كما فى وصف عطيل بأنه «أفريقى» إشارة إلى لونه الأسود وما يتضمنه من تمييز أو اختلاف عرقى من منظور الآخر؛ تتحوّل إلى صفة جماليّة، تجذب النساء، كما إن الأسود لم يعد راغبًا، بل مرغوبًا فقد غدا الوسيم الذى تتصارع عليه النساء، ويكتوين بناره بالانتحار تارة، وبالموت تارة أخرى. والعجيب أن هذه الصورة التى تكسر الصورة النمطيّة فى تمثيل الآخر، لا تأتى من قبل نساء أوروبا ورؤيتهن لمصطفى، بل تتشكّل هذه الصورة له من قبل الرجال كذلك، فالراوى عندما يصفه لأبيه يقول عنه: « ... رجل ربعة القامة، فى نحو الخمسين أو يزيد قليلاً، شعر رأسه كثيفًا مبيض، ليست له لحية، وشاربه أصغر قليلاً من شوارب الرجال فى البلد. رجل وسيم»، يتكرّر وصف وسامة مصطفى سعيد فى أكثر من موضع، فيصفه مرة ثانية عندما جاءه زائرًا فى القيلولة: «دققت النظر فى وجهه، وهو مطرق. إنه رجل وسيم دون شك، ... وكانت عيناه ناعستين، تجعلان وجهه أقرب إلى الجمال منه إلى الوسامة..» وبالمثل يصفه الرجل الإنجليزى ريتشارد بأنه: «كان زير نساء خلق لنفسه أسطورة من نوع ما، الرجل الأسود الوسيم، المدلل فى الأوساط البوهيمية...».أما آن همند فتقول له: «أنت جميل تجل عن الوصف». هذه الوسامة كانت محل إثارة واشتهاء من قبل النساء الأوروبيات، فآن همند تقول له: أنت جميل تجلّى عن الوصف، وشيلا غرينود تقول له: «ما أروع لونك الأسود، لون السحر والغموض والأعمال الفاضحة»، المفاخرة بهذه العلاقات النسائية، وسقوطهن فى حبائله، غرضه إتاحة الفرصة للأسود أن يتخطى شعوره بالنقص الذى خلقته نظرة الأبيض،وكأنّ الأنا فى حالة دفاع ضدّ المثيرات الخارجيّة، فالشعور بالنقص يماثِلُ انقباض الأنا عند فرويد، تجنُّبًا للانزعاج، ولكن الأنا لم تعد فى حالة شعور بالنقص ومن ثمّ تثأر لنفسها بإظهار هذه الأنا وتحديدًا ما يميّزها وهو لون السواد، للمرأة البيضاء وما تحمله من نظرة إزدراء للمرأة الشرقية / الجارية التى كانت من مقتنيات ماتيس. أضف إلى ذلك أن مصادرة بطل الطيب صالح للفضاء الإمبريالى، وصلت إلى أقصاها بصفة التملك (أو الهيمنة) التى بدا عليها وهو يُخاطب الجمهور، ولنتأمّل الجمهور الذى التف حوله بعد المحاضرة التى ألقاها عن الشعر العربى، ومقارنته بين أبى نواس وعمر الخيام، على الرغم من اعترافه بأنه «كلام ملفق، لا أساس له من الصّحة» ومن هؤلاء: «موظفون عملوا فى الشرق، ونساء طاعنات فى السن مات أزواجهن فى مصر والعراق والسودان، ورجال حاربوا مع كتشنر واللنبى، ومستشرقون، وموظفون فى وزارة المستعمرات، وموظفون فى قسم الشرق الأوسط فى وزارة الخارجيّة».لاحظ الفئات المشاركة، بعضها ينتمى إلى الحِقبة الاستعمارية، وكأنه يردّ الصاع لهم، فلم يعد المتلقى كما كان إبان الحقبة الاستعمارية، وإنما المخاطِب، وهو المتلقون، فى قلب للأدوار التى كانت إحدى الآليات السردية المضادة للسردية الكولونيالية. العجيب أنه لم يكتفِ بهذه المقدرات التى جعلته ينال الاعتراف من أساتذته، وهو ما جاء فى هيئة دفاعهم عنه أثناء المحاكمة، ومحاولة تبرئته، وإنما وصل به الأمر إلى شعوره بنوع من التفوق، فقد تجاوز مرحلة الاعتراف التى اعتبرها «فانون» شرطًا كى «يكون المرء إنسانًا» فكما يقول مصطفى سعيد، وهو يصف لحظات انتشائه على الجميع فى المحكمة، والكل يتبارى ليضع حبل المشنقة حول عنقه، ورغم صعوبة المشهد إلا أنه يشعر كما يقول: «.. تجاههم بنوع من التفوّق، فالاحتفال مقام أصلا بسبى، وأنا فوق كل شيء مستعمِر، إننى الدخيل الذى يجب أن يبت فى أمره....الدخيل هو الذى قال لصاحب الأرض، وصاحب الأرض طأطأ رأسه لم يقل شئًا، فليكن أيضًا ذلك شأنى معهم...». مثلث الرغبة والاشتهاء والتملك الصّورة الأخرى من اقتحام فضاء المحراب الأبيض تجلّت فى التمثيل وليس تمثيل الآخر حسب إدوارد سعيد، وإنما تمثيل الأنا (الذاتى)، وهو أيضًا يعدّ - كتمثيل الآخر - «آلية من آليات الهيمنة والإخضاع، وهنا لا يأتى كنتيجة حتمية لاجتماع الغلبة السياسية والقوة المعرفية فى ثقافة من الثقافات»، على قدر ما تلجأ إليه الذات لتثبت هيمنتها وقوتها وقدرتها على السيطرة؛ فالبطل مصطفى سعيد استحضر الفضاء الشرقى داخل الفضاء الإمبريالى، عبر تمثيلات ذكيّة، تؤكد الغزو، والاقتحام؛ بدءًا بعبارة الفخر «أنا الغازى..»، و«جئتكم غازيًّا فى عقر داركم...»، وقريناتها «أنا الدخيل»، وهى ما تتناص مع ديوان الفخر فى الشعر العربى القديم كما هى عند عمرو بن كلثوم (إليكم يا بنى بكر إليكم)، وعنترة بن شداد (وسيفى كان فى الهيجاء طبيبًا // يداوى رأس من يشكو الصداعا)، فهو فى النهار كان يحاضر فى الاقتصاد وفى الليل كان يقيم حفلاته وكأنه شهريار، أو كأنه السيد والنساء الغربيات جواريه، فالتركيز على استحضار مفردات (ومعالم) البيئة الشرقية فى فضاء غربى مضاد لقيمه وعاداته وأنساقه، له دلالته الخطيرة فى تأكيد الاقتحام والهيمنة على هذا الآخر، وبالأحرى تبدل الأدوار، فالتابع / أو المستعمَر صار مستعمِرًا، وهو ما أكده باستخدامه الكلمات العربية التى تؤكد هوية الشرقى (العربيّ)، كالخيمة، والوتد، الرمح والقوس والنشاب، والعباءة والعقال. وبصفة عامة كانت فتوحات مصطفى سعيد بمثابة قلب للسردية الاستشراقية التنميطيّة؛ إذ يجعل النساء الأوربيات اللاتى ينتمين للحضارة الغربية يَحْلِلَن على نفس الموقع الذى وضعت فيه المخيلة الغربية نساء الشرق، فيجعل الشهوة (أو الاشتهاء) هى المُحرّك والمحرّض للتملّك؛ لذا عمد إلى إثارة خيالاتهن باستحضار صور تتوافق مع ما رسمته المخيلة الغربيّة للشرق كما فى جاء فى سرديات الرحّالة والمستشرقين من قبل، فكانت صورًا لا تعكس واقعًا بقدر ما تعكس «جغرافيا خيالية» بتعبير إدوارد سعيد، وهو ما عابه عليهم المفكر الفرنسى مونتانى فى مقالته «عن أكلة لحوم البشر» فيرى أن تقارير الرّحالة تفتقد للدقة إذْ إنهم لا يُصوّرون الحقائق على ما هى عليه، بل يغيّرون ألوانها وُيبدّلون فيها بما يتوافق مع وجهة نظرهم التى حكمت رؤيتهم لها. ولا يتورّعون عن إضافة ما يَعنّ لهم من أشياء أو المبالغة فيها وتكبيرها سعيًّا إلى المصداقية وجذب الجمهور إلى رأيهم، وفى بعضها الآخر هى تصورات مستوحاة من حكاية ألف ليلة وليلة، وإمعانًا فى تبادل الأدوار وخلق مَشهدية مسرحية تقلّد البطل / مصطفى سعيد دور شهريار فى اقتناء (أو تملُّك) المحظيات والفاتنات، من أجل الرغبة أو الشهوة، الفارق أن شهريار بعد أن ينتهى من ممارسته كان ينصاع لشهوة الانتقام فيأمر خادمه مسرور بقتلهن، أما مصطفى سعيد، فإنه كان يذيبهن فى اللّذة والمتعة والإغواء، حتى تنقاد إلى مصيرها بنفسها، فانتحرت فتاتان، وقتل زوجته لما تمردت على قوانينه، وحاولت استبدال أدوار السيد بالعبد، فأجْهز عليها، لأنه لم يستطع أن يكون فى دور التابع أو العبد من جديد.